تفاح القطار

 


تفاح القطار

 

لأن الجميع ركب القطار فعلت أنا ذلك. لأن والدي ركبه قبلي، وأمي قالت لي حين كنت طفلا بأنني سأفعل يوما ما فعله أسلافي. ولأن أصدقائي في المدرسة حين سألنا المدرس ماذا نريد أن نكون، قلنا جميعا: أن نركب القطار.

قالوا إنه لم يكن في السابق مزدحما كما أصبح عليه في العقد الأخير. رائحة الناس خانقة، أقدامهم تتقاطع وتتصادم، جباههم تند بالعرق. مشيت حتى عثرت على مقعد سرعان ما قمت عنه بدافع اللياقة لرجل طاعن في السنّ، لأن رجل الدين قال في الموعظة عليك أن تحترم الكبير. وقفت بجانب الشباك وسرعان ما تركت موقفي بدافع التودد لفتاة عابرة، لأن قلبي قال ذلك.

امتلأ المكان بالمسافرين والعابرين والماضيين إلى اللا مكان وكل مكان، فتحوا النوافذ، الرائحة تخنقني أكثر، أخرجوا طعامهم وأكلوا دون تحسب لتبعات ذلك على الهواء القليل المتبقي. ولسوء حظي فإن المكان الوحيد من بعد تنازلاتي المتتالية كان لصيق الحمام آخر المقطورة. وقفت بجانبي فتاتان، جمال الأولى الأخاذ طغى عليه قبح الأخرى، وعلى الاثنتين طغت قبح الرائحة وصفّ المنتظرين الفوضوي لدورهم في الحمام الكريه.

في الانطلاقة الأولى للقطار اندفعنا جميعا واحدنا تلو الآخر، حتى امتزجت قطرات العرق ورطوبة الملابس، وصاح الجميع في هدير واحد (هاه). عاد كلٌ إلى مكانه يلوم الآخر بنظرة لا معنى لها. بعض الشتائم انطلقت تجاه القائد، بينما لعن البقية القطار المهترئ من طول الأمد.

الواقفون بانتظار دورهم في الساعة الأولى يثيرون حنق بعضهم، كل منهم يلوم الآخر لعدم إفراع أمعائه قبل الركوب. بينما أنا والفتاتان ضحية هذا الإهمال نقف صامتين. لا أعلم هل تلعنان المكان الذي ألجأنا الزحام إليه أم تتأملان وجوه الواقفين كما أفعل. خرج طفل بدين ولم يكد يكمل لملمة قميصه وقد بلل ثيابه ونثر رائحة حامضة أتبعتها شتائم من آخر الصف. التفتت الفتاتان إلى بعضهما وضمتا وجهيهما إلى السواعد، ونظرتا إليّ كأرملتين. من هنا نشأ التضامن بيننا، تضامن الثلاثة الذين يعانون من سوء اختيار المكان.

كانت وجوهنا نحن الثلاثة تدل على تاريخ طويل من طفولة حالمة، ومصير مشترك قررته الصدفة. فحين خنقتني رائحة الطفل مددت قدمي اليمنى لأخطو مخترقا الصف باحثا عن مكان جديد ولو في السطح العاري. أمسكت إحداهن بيدي، القبيحة منهما ربما، بيدين ناعمتين وقبضة أرملة حقيقية في يوم العزاء، وقالت الأخرى بصوت لا يتناسب مع عينيها اللوزيتين "لا تكن جبانا".

هل تكمن لعنة الحياة وسخريتها في الظروف التي نختار فيها رفاق الطريق، أو في المعاني التي تدرجها في عقولنا، فأي شجاعة في مواجهة رائحة طفل أكل وجبة سريعة من مطعم رديء في صالة انتظار مكتظة بالمسافرين!

أدرنا وجوهنا نحن الثلاثة نحو النافذة، ملتصقين ببعضنا، متغاضين عن بلل العرق الذي جعلنا دبقين وغير مبالين بأجسادنا. العرق سر الجسد الذي إن باح به للآخر زالت به حواجز التجمل. أخرجنا كوامننا لرفيق عابر لا يرتجي القلب يوما عشقه، لكنه وبسبب هذه الرفقة حتما سيحبه.

منظر الصحراء الممتد، وقبب نبات الشيح الصغيرة كالزغب الناتئ على وجه الحياة، جعلنا ننسى ولو قليلا سوداوية الإيقاع خلفنا. صمتنا لدقائق عدة، وضعت ذات اليد الناعمة يديها متشابكتين على كتفي وتوسدتهما برأسها، فأصبحت معلقة بي تكاد تتمرجح، ملت ناحيتها فتعلقت ذات العينين اللوزيتين من الناحية الأخرى، فأصبحت متوازنا أمام مشهد الصحراء الممتد. قالت صاحبة الصوت النافر عن وجهها، وهي تُميل رأسي تجاهها، "كن شجاعا وضع رأسك".

لا أدري كيف ترى هاته الجميلة ذات الصوت الثخين معاني الحياة، وكيف تكون الشجاعة في وضع رأسي على رأس امرأة دون دعوة منها، هل تبرر الرفقة هذا التعلق بالأيدي والميل بالرؤوس، أم أن بلل الرقبة ورائحة الرأس التي تشبه أوراق شجر الصحراء تجعل من الممنوع ممكنا!

على النافذة أمامي صورة لرجل أسمر يمسك بالعود وله نظرة باردة، كتب أحدهم تحتها بأنه: في شارع الخزان، وجد إنسان، يكتب على الجدران، بشير حمد شنان! وفي أسفل منها صورة لمحمد عبده وعليها علامة X . لقد مر الدرباويون من هنا!

ارتج القطار فتمسك الناس ببعضهم وكأنهم كان ينقصهم ذلك، ملنا ثم اعتدلنا، ورؤوسنا منحنية على بعضنا ونظرنا مركز على الفضاء الممتد. أزيز القطار يعلو والأرض من تحتنا ترتج. قبضت الفتاتان على كتفي، والتصق جسديهما بجسدي، أصبحنا نرتج حتى تعرفنا على أعضاء بعضنا في أسوأ وقت قد تختاره الحياة لنا. مددت يدي قابضا على ذراع حديدية مثبتة أسفل النافذة.

كنا قد قطعنا عشر ساعات حين أعلن النداء بأن المحطة التالية بعد ساعتين، لكننا لن نقف، هكذا قال كصاعقة (لن نقف)، رغم محاولته الحديث بصوت هادئ. "للأسف يخبركم القائد بأننا لن نقف، لأن مجموعة من الدرباوية سيطروا على المحطة، ونهبوا ما فيها، وهم يشتبكون الآن مع القوات الوطنية".

سيمضي القطار عشر ساعات إضافية حتى يصل إلى محطة نائية وسط قاعدة عسكرية، "هناك سنكون بأمان". يا للعنة الصدف. صحيح أنني لم أخطط النزول في المحطة التالية لكنني قد عزمت على احتلال مقعد مريح، وأقسمت أنني إن رأيت أشد عجائز أهل الأرض بؤسا، وأكثر شيوخها هرما، وجميع جميلاتها، حتى شاكيرا نفسها، وشيريهان المعتزلة، وسعاد حسني المرحومة، فإنني لن أسمح لعقلي ولا قلبي أن يعيد الخطأ نفسه. لقد بات عليّ الآن أن أمضي مثل الوقت الماضي واقفا، وسأحتمل أمعاء أكثر عفونة، وحماما بخزانات ممتلئة، وطفل يعود كل ساعة برائحة تفاحة عفنة.

مالت التي على يميني فأثقلت كتفي، فوكزتها بكوعي ففزعت مستيقظة من غفوتها، قالت الأخرى، "لا تكن فظا". لعنة الله على رفقة بهذا الشكل. أأنتما توأمتان دون شبه، أم هو التضامن ضدي أنا الرجل!، "لاتكن سخيفا" قالت الأخرى.

أعلن النداء أن الأطعمة لن تكفي حتى المحطة المنشودة، لكن البشرى السارة كانت في وجود عربة تنقل شحنة تفاح ياباني لشخص مرموق. قرر القائد مشكورا أن يواجه الطبقة المخملية في البلد بأن يستولي على مائة كرتون تقبع في مقطورة التبريد.

صاح بعض الشباب بعزمهم على النزول في المحطة المحتلة، وصاحت عجوز بظهر مقوس وبجانبها زوجها الذي يمضغ لثته "لا أخاف الدرباوية". أمر القائد بالتزام الهدوء وأعلن أن القطار لن يتوقف مهما كلف الأمر، صاح الشباب "سنقفز"، وصاحت العجوز "كلنا" وهي بالكاد ترفع يدها بذراع مترهل معلنة الثورة.

اقترب القطار من المحطة المحتلة، مشى الشباب بحماسة مارّين من أمام الحمام والعجوز تتبعهم، سمعتها تقول لشاب وسيم  يسندها إنها كانت ضمن القوى الثورية في منتصف القرن العشرين، وأنها تطوعت للقتال في الحرب الأهلية في لبنان. كان زوجها يمضغ لثته في مكانه، ويلملم حاجياتها ويضعها بتأنٍ على المقعد وكأنها ستعود بعد قليل.

قالت إحداهن: "ماذا سنفعل؟"، أجابت الأخرى "لن نذهب إلى أيّ مكان، تمسكي"، واشتدت أيديهما على كتفي وذراعي. سألتهما: هل تعرفان بعضكما، قالا بصوت واحد متنافر "لا"، وأتبعت إحداهن، "لا تكن أخرقا". لعنة الله عليكما، لقد قررا أنني لن أمضي إلى أي مكان، وأنهما سيبقيان متعلقتان بيدي. وبت أشك بل وخيّل إليّ أننا الثلاثة أصبحنا واحدا.

عاد الطفل ذو الرائحة الكريهة، أوشكت أن ألكمه لأمنعه من دخول الحمام، حتى أخرجت إحداهما أنبوبة عطر من جيبها، فتحته فتخللت رائحة الياسمين إلى أنفي وعقلي، وقبل أن تشمه الأخرى سقط من يدي وتدحرج على الأرض تاركا بعض القطرات متجها للطفل ذي رائحة التفاح العفنة. استقر بين رجليه، كنا نتابع دحرجته ونحن نحني رؤوسنا بين أقدامنا. عدنا نحن الثلاثة خطوة إلى الوراء، تليها خطوة ثم خطوة حتى كدنا نلتصق به. وضعت يدي على أنفي وغصت في مجرى رائحته بين ساقيه، مددت يدي لآخذ الأنبوبة فانتبه اللعين وانحنى لالتقاطها فتدحرجت نحو الشباك من الناحية الأخرى. ركضنا ثلاثتنا دون أن تفلت الفتاتان ذراعيّ، وأسرع اللعين من أمامنا مستغلا بطئنا. مَدَّت رجلها فتدحرج هو الآخر صارخا، وضحكَت بصوت شرير أصابني بالنشوة. انحنينا نحن الثلاثة والتقطنا أنبوبة الياسمين التي لم يتبق منها سوى القاع.

أعلن القائد أننا اقتربنا من المحطة، صاح الشباب من آخر المقطورة مشجعين بعضهم على القفز. ورأيت العجوزَ المقوسة متكئة على شاب وسيم آخر رافعة ذراعها مرسلة التحية بكفها كقائدة.

أصبحنا على الناحية الأخرى من النافذة، كان مكتوب عليها (يحيا طاش ما طاش ويسقط فريندز)! وتوقيع في الأسفل (درباوي الحلة).

رأينا أجسادا ملقاة على الأرض فأغمض النساء أعين أطفالهن وهن يكتمن الصرخة وأنوفهن لصيقة النوافذ. كانت الأجساد ملقاة بثياب ملطخة بالدم وربطات أشمغة على الكتفين. بعدهم بأمتار قليلة رأينا جثث جنود من القوات الوطنية. رأيتُ جريحا يضع ورق شجر الشيح على جرح في عنقه ينزف الدم، ويلوح لنا طلبا للنجدة. رأينا آخر يسيل الدم على رأسه وقد ظهر بياض مخه، جاء مترنحا حتى رمى نفسه تحت القطار وسمعنا صوت سحق عظامه. سمعنا كوابح القطار ومال الجميع للأمام، أمسكت الفتات بذراعي وأمسكت أنا بالذراع الحديدية عند النافذة. سمعنا ارتطاما في الأمام، أعلن القائد "الدرباوية يضعون تروسا خشبية، سنحاول اختراقها، تمسكوا". سمعنا اصطدامات عنيفة، ارتج القطار وتداخلت الصرخات. رأيت الطفل يبكي ومخاطه يسيل على فمه وهو يمسح وجهه ويشد بنطاله المرتخي وينادي "ماما". بينما الشباب في طرف المقطورة ألجمهم الذهول.

رأينا بقايا من الدرباوية يبتعدون عن الطريق خوفا من التحطم، فتحوا الرشاشات الآلية في حين صرخ الجميع "انخفضوا"، حضنتُ الفتاتين فأصبحنا كجذع نخلة على الأرض. كان الطفل البائس يبكي وينظر بذهول، سمعنا قرقعة النوافذ فجرى من فوقنا، أحسست بقدميه الثقيلتين على ظهري ومؤخرتي.

لم يتحرك أحد لبرهة ثم قام الجميع يتفقدون أنفسهم. وقفنا الثلاثة كجذع نخلة، نضم بعضنا، نتفحص أعضاءنا من أثر الزجاج على الأرض والرصاص الطائش. من حس حظنا أن النوافذ لم تتحطم وإنما تثقبت.

جاء عمال القطار يحملون صناديق التفاح يخطون بتأن وحذر وسط الزحام، كانت العجوز قد عادت مكانها وهي مطأطأة الرأس بينما زوجها يلوك لثته، خيل إلي أنه يبتسم شامتا بخبث. قامت في رغبة ببطولة جديدة وتعلقت بزنار عامل أسمر ذي ظهر مشدود، تأمره أن يعطيها تفاحة، رج وجهه كمن يشيح ذبابة عنه وقال بإصرار بأنه سيبدأ من المؤخرة، وتزاحم العمال خلفه وتلاصقوا وارتفعت أصواتهم يأمرون العجوز بإفساح الطريق وإطلاق خصر الفتى الأسمر، لكنها أصرّت وقد طوقت الآن خصره بكلتا يديها. خرج الطفل اللعين من لا مكان، وقفز ليحصل على تفاحة من الصندوق، فسقط بنطاله وظهرت مؤخرته، حاول تدارك الأمر فاختل توازنه وسقط على العجوز. دبت فوضى بينهم الثلاثة وأصبحوا على الأرض وتدحرجت التفاحات، قام الناس من مقاعدهم لأخذ ما يمكنهم فعمت الفوضى، حاول العمال الآخرون العودة لكن الناس أسقطوا الصناديق كلها وأصبحت الأرض مجزرة برائحة التفاح المبرد الممزوج بالأحذية.

بعد أقل من ساعة كانت الأرض ملطخة بهريس أسود، ورائحة التفاح العفن تتخلل الأجواء وتخترق الأنوف، أحسست بها في معدتي وفي نقطة عميقة في رأسي. التصقنا الثلاثة مجددا بنافذة لا ملصقات عليها وبعيدة عن الحمام. اخترنا نافذة ملأتها الثقوب، بحث كل منا على ثقب ليتنفس هواء نقيا، فيما نحتفظ بأنبوبة الياسمين لحالة أكثر سوءا من هذه.

لقد نفد الزاد الذي يمثل ثورة القائد ضد أوامر الطبقة المترفة، والذي يمثل الأمل الذي سننجو به في الساعات الطويلة المتبقية. أطبق صمت على الأجواء، وعاد كل إلى مقعده يحاول أن يلملم ذهنه ويرى كيف ستجري الأمور. أعلن القائد أن وجبة واحدة تبقت في المطبخ، وأنه لن يسمح بالوصول إليها أو توزيعها حتى تمر ساعات عدة ويهدأ الجميع.

رأينا عمال القطار يمسكون هراوات فظننا أنهم ماضون في فرض الأمن. مرّ الشاب الأسمر شادا صدره من جانب العجوز ولم يلق لها بالا، توقف عند باب المقطورة في آخر الرواق وتأكد من أنه محكم الإغلاق، وقف وعينه على الخارج. التفت إلينا وأشار كجندي المارينز إلى الجميع أن يخفضوا رؤوسهم، جثونا نحن الثلاثة على أقدامنا كمن يقضي حاجته. عادت رائحة التفاح العفنة وأحسست بها في معدتي ورأسي، أخرجت الفتاة أنبوبة الياسمين من مخبئه في صدرها والتصقت رؤوسنا ونحن نشمه. كانت رائحة ممتزجة بعرقنا، عرق الرقبة المتراكم وشعرهما الذي يشبه ورق شجر الصحراء.

سمعنا صرخة وإذا باثنين من الدرباوية هبطوا من سقف القطار يحاولون اقتحام الباب، نادى الفتى الأسمر على زملائه الذين كانوا يحرسون البوابات الأخرى، جاء بعضهم بينما بقي الآخرون في أماكنهم تجنبا لوجود آخرين. حاولا فتح الباب بينما العمال يمسكون به ويحكمون إغلاقه، أطلق القائد المكابح فجأة فسقطنا على الأرض، أصبحت وجوهنا نحن الثلاثة في وسط وحل هريس التفاح الأسود، أحسست به في فمي وأنفي. سمعنا سحق عظام الدرباويين تحت المقطورة اللاحقة. رفعت رأسي ورأيت وجه الفتاتين. بكيت وأنا أتفل وأتمخط، وبكتا معي.

لم أظن يوما أنني سأهون على الحياة كما حدث هذه اللحظة، لم أظن أنني سألقى هذه المهانة التي لقيتها، ولم أعتقد أن القاع لا نهاية له كما حدث في اللحظة التي سقطت فيها على وجهي، لقد بكيت من فرط الشعور بالذل والخزي أمام نفسي. للمرة الأولى أشعر بأن واجبي تجاه جسدي وذاتي أن أكرمها وأصونها، وأنني للمرة الأولى أفشل وأسقط وأتمرغ في الذل، لقد حدث لي مع ذاتي ما لا يمكن نسيانه، كيف سأتعايش مع نفسي وقد جرى ما جرى، كيف سأقف أمام المرآة وأستحم وأتعرى، هل سيفي الصابون والدهون والعطور بغرض النسيان، وهل ستغفر لي ذاتي هذه الزلة التي لا يد لي فيها!

كانت الفتاتان تمسكان بيدي، وتمسحان باليد الأخرى وجهيهما، وتنشجان دون صوت وبقلب يتقطع حسرة. كانتا تنثران أكفهما في الهواء متقززتان. وقفنا، ولم ننظر خلفنا لنرى ما أحدثته المكابح بالناس، لكننا سمعنا العويل يتداخل ويختلط، وسمعت العجوز تلعن القائد والفتى الأسمر ورفاقه.

بعد ساعة من صمت رهيب ومهيب، عاد العمال بدلاء الماء وسكبوها في الرواق، وكشطوا بالماسحات الأرض، كانت الرائحة تمزق كل ما تبقى من كرامتي، حتى سكبوا أخيرا دلاء الماء الممزوج بالكلور، وفتحوا أبوب المقطورات ليدخل الهواء بعد أن تفقدوا الأسطح.

أعلن القائد بأننا أمام خبرين مهمين، الأول أن العاملين سيقومون بتوزيع المرطبات والوجبة المتبقية التي لم يعلن عن وجودها سابقا، لكنه سيبقي على حبة موز لكل راكب لوجبة وحيدة وأخيرة. والخبر الثاني أن القوات الوطنية انسحبت من القاعدة العسكرية وهذا يعني أنه لا يمكننا التوقف هناك، وحتى يقرر الأمر فعلينا أن نكون على قدر المسؤولية وأن نلزم الهدوء!

قام زوج العجوز وهو يلوك شيئا في فمه ويعضّ على لثته، مشى بتأن نحو الباب المفتوح، أحسست به وسمعت فمه عند أذني، كانت العجوز تنظر إلى الأرض كطفلة يتيمة، وقف أمام البوابة، ناداه الفتى الأسمر فلم يلتفت إليه، وخطا خطوة إلى الأمام بهدوء مخيف، وسمعنا بعد ثانية سحق عظامه تحت المقطورة اللاحقة. لم تتحرك زوجته، ولم تقل كلمة، تقوست على نفسها أكثر، ووظبت أمتعة زوجها كمن نزل في محطة ورحل عنها.

مضت الآن أكثر من خمس وعشرين ساعة ونحن الثلاثة واقفين كشجرة بجذع وحيد. أزيز القطار أنهك عضلاتنا وأرهق أفكارنا. فكرت في كل شيء حتى توقفت الفكرة، ثم أصبحت بطيئة تتخلل عقلي كضباب الصباح، ثم تلاشت ثم عادت كوهج الشمس ثم اختفت. صرنا نبكي في لحظة من لا شيء، ثم نلصق أنوفنا بثقوب النوافذ، ثم نشم أنبوبة الياسمين الفارغة الممزوجة بعرقنا. لم يعد شيء ما يقينيا ولا مفهوما، كل شيء مشكوك فيه وملطخ بالذل.

رأساهما منحن على كتفي، ورأسي تارة إلى اليمين وأخرى إلى اليسار. فكرت بالفرق بين رائحتي رأسيهما فلم أصل إلى نتيجة محددة، شيء ما بين الصبار والكمأة، ثم تلاشت الفكرة.

بعد ثلاثين ساعة وقد أصاب الخدر ساقي ولا أدري من منا يستند على الآخر، ولم تعد ذاتي تشغل فكري بقدر الرغبة في نهاية هذا الذي يحدث، أعلن القائد أن العاملين سيقدمون لنا حبات الموز، ورجانا كأب مثلوم أن نلتزم الهدوء. تقدم الفتى الأسمر بسلال الموز يتبعه الباقون، قامت العجوز من مكانها محاولة ترتيب حاجياتها، رأيت الانتباه والحذر في عين الفتى الأسمر. عدنا خطوة إلى الوراء ثم التفتنا نحن الثلاثة ومشينا بتأن وهدوء نحو باب المقطورة، خطوة بعد أخرى، وأنا أرى بعقلي العجوز المتقوسة وعيون العاملين التي يملؤها الذعر. انفتح باب الحمام بجانبنا فخرج الطفل اللعين، لا أدري كيف دخل ولا من متى كان هناك. ثيابه مبلله، ويحاول شد حزامه على كرشه المترهل، ويتحرك يمنة ويسرة كنعامة محدثا جلبة على أرض الرواق. سمعنا توقف خطوات العاملين، وصمت مطبق عدا صوت خبط أقدام الطفل وعبث العجوز بحاجياتها.

رأيت عيني الفتى الأسمر في مخيلتي يملؤها الذعر والهلع، كنا نقف ثلاثتنا على حافة المقطورة، تنقصنا خطوة الرجل العجوز الهادئة واللا مبالية والخالية من عبء الضمير. سمعت صرخة الهلع، ثم صوت صدمات الأرجل مع خبطات الطفل. سقطوا على الأرض، شتائم ولعن وسباب مختلط، ثم رائحة الموز. رجوت للحظة أن يفاجئني درباوي ويسحق عظامنا جميعا بهراوته، أو أن تسعفنا أقدامنا نحن الثلاثة لنخطو خطوة الخلاص للأمام. أطلق القائد المكابح، كنت وحدي أتحرر من القطار، وحدي هناك.

 

 

 


تعليقات