ما يستحق الوقوف

 

ما يستحق الوقوف

في اللحظات القليلة والنادرة التي يمر فيها شريط الحياة أمام عيني وعيك، قد يخطر ببالك أن كل ما جرى كان لأجل هذه اللحظة. أن الكون يعدك لتواجه ما عليك مواجهته. ثم يصيبك نوع من نكران الذات لأن الكون لا يعبأ بك، تفكر إن كنت حقا ضمن خططه. أو إن كانت الأحداث تجري لتعني لك الحياة شيئا. إن نظرة سريعة على ما يقاسيه الناس والكائنات تجعلك تخجل من نفسك لأن الفكرة قد عبرت بذهنك.

لو كانت الحياة تعني شيئا لكانت السعادة وراحة البال والمعاناة والقلق أعدل الأشياء قسمة بين الكائنات. وفي حين لا يمكننا الجزم بما يقاسيه الآخرون تجاه ما يجري لهم فإننا لا نستطيع الإجابة على هذا السؤال.

إنها فكرة مخجلة أن يظن المرء نفسه معنيا لذاته في هذا الوجود، وأن الأمور تجري لأجله، غير أن حكمة القدير تشير إلى أن الكل معنيّ، وهذه الدقة المتناهية تفوق القدرة على التصور فتعيدنا في وعينا البشري إلى لحظة التفكير الأولى.

إن الضربات المتتابعة، ونكث الحياة عن وعدها بالأمل الذي سمعناه منها وحيا في أعماقنا، بعد أن استنطقناها في أشد لحظات الضعف والرغبة في النجاة، حين أخبرتنا أن كل ذلك سيمضي، وأن القادم أجمل، وأن نهر السعادة المقدس على بعد بضع كيلومترات من السير الزمني للأمام، إن ذلك كله ألهمنا أمرا. لقد نكثت الحياة بما لم تنطق به، فتجاوزنا مسافة زمنية تلو أخرى ولم نعثر إلا على أرض سبخة وجو رطب وأقدام مغروزة وعضلات متشنجة، حيث لا مجال للعودة إلى ما كنا عليه، ولا طاقة لنا للهروب للأمام.

إن هذه الضربات المتتابعة أوحت إلينا والشمس تسفعنا في تلك الأرض الدبقة أن الحياة لا يجدر بأحد أن يحملها على محمل الجد. لأننا في سيرنا الطويل لم نفنى، كما أننا لم ننج كذلك. في الصباح الباكر حيث يعدم الضباب الرؤية كنا نلعن السراب الذي أغرانا بالتقدم حتى وصلنا إلى هذه الأرض المنقطعة، وفي المساء حين يجلو القمر وجوه بعضنا نضحك على أقدامنا المغروزة في وحل الوجود. لقد بات الأمر عدميا ومضحكا في الوقت ذاته، والذين لم يغريهم السراب ولم يتقدموا لم تنج الأرض التي كانوا يقفون عليها، حتى أننا من شدة الضحك حمدنا الأمل الكاذب الذي أوصلنا إلى هذه المفازة.

 كل الذين حملوا متاعهم وقلقهم وساروا نجوا، وكل الذين وقفوا فنوا. رغم أن لا أحد منا وصل. لقد استغرقنا زمنا طويلا حتى أدركنا أن المغزى في المشي، وأن السراب قد صُنع على مهل وتقانة، ولولاه لما بقي من أعقابنا أحد. لقد فررنا من الموت إليه، صنعنا أعمارنا عبر هروب لا ندري مداه، غير أن دوافعَ تراكمت في ذواتنا أخبرتنا أن نمضي لأن التوقف يعني الهلاك.

في الليالي الباردة الطويلة، والنهارات الحارة البطيئة، أدركنا أن الحياة لا يمكن لها أن تكون جادة، وأن الأمر لا يستحق لكننا مضطرون للمشي. وكل الذين توقفوا وشتموا الزمان والمكان عادوا يمشون وراءنا. ولكل منهم سببه المعلوم والمجهول، ما يفهمه وما ينطق به وما لا يستطيع منه هذا ولا ذاك.

مشت الأم ورضيعها عالق بثديها وهي تخشى الجفاف، وعلى الناحية الأخرى رضيع رفيقتها التي ماتت بعد زفرة الوضع. وحيث كان لكل منا سببه الوجيه، أدركنا بعد أن مات بعضنا أن الأسباب هي نوع من الوهم أيضا لأن البقية نجوا حتى الرضيعين وصدر الأم الجاف.

إنك لو مت اليوم أو بعد سنة فإن الحياة بدقتها المتناهية ستمضي، لأنها صممت على نظام يسمح بالتخلي عنك. وإن المعرفة التي تمتلكها عن الحياة والخبرة التي تحملها، بنفعها وضررها، وقوتها وضعفها، لن يتوقف أمر ذي بال عليها، لأن الدورة مليئة بأمثالنا، والامتلاء يعني إمكانية الاستغناء. صحيح أن الأب لا يعوضه شيء، ومثله الأم، والجد والابن والحفيد، لكن الحياة صممت على النجاة مع الفقد، لذلك لا تأخذ نفسك أبدا على محمل الجد، لأنك لست كذلك.

لقد كانت الأم تنجو بنفسها حين كان قلبها يرتعد خوفا على وليدها، كل ما في هذه الحياة سراب يدعو للضحك، ووحده الوقوف والمشي هو الأمر الحقيقي فيها، ووحده المضي إلى الموت فرارا منه، أو الفرار من الموت مضيا إليه، هي ما نقتن فعله.

لقد آلت بنا الأمور بعد ليال من الأرق ونهارات من الشتائم ومساءات من الضحك، إلى أن أصبحت تنحو منحى صامتا، أصبحنا نحث على المسير ونحن نساءل القمر، وباتت آلام المتعبين تؤلمنا أكثر، حتى إن آذاننا لم تعد تحتمل بكاء الأطفال من مغص عابر، فضلا عن نوح الأمهات قبيل الفجر من ألم خفي متدفق. لأنه إن كانت الحياة ليست على محمل الجد فلا يجب أن يتألم أحد فيها، إننا عابرون، وعلى العابر أن يتخفف من القلق والآلام.

عادت بنا الذكرى في لحظات الجدل الأولى حين قررنا أن نخرج سويا بحثا عن فرودس وعد به المجهول، لحظة أن تضامنا وتعاهدنا على المسير، حين بحثنا عن رابط بيننا فقال بعضنا إنه العرق وقال آخرون إنه الدم بينما جنح بعضنا نحو الفكرة والأسطورة. كنا نخبر بعضنا أن العهد وثيق بدلالة الباعث عليه، واليوم نساءل القمر إن كان ما قلناه صدقا، وتبكي النساء صمتا من حقيقة الخرافة التي نطق بها الرجال.

لقد مضينا ليالي الصمت تلك، وأقدامنا مغروزة في الوحل، ونحن واقفون في صحونا ونومنا نتساءل عن حقيقة دواخلنا، ضحكنا كثيرا ونحن نقف في وجه الحياة لا لشيء سوى عجزنا عن ثني ركبنا بعد أن يبست. لم يكن لدينا خيار سوى الوقوف. لقد تعلمت الأشجار كيف تنجو واقفة فما بالنا لا نتعلم.

تعليقات