لا أنصح بقراءة التدوينة قبل مشاهدة الفيلم، فبغض النظر عن حرق الفكرة الرئيسية له، إلا أنها لن تضيف لك شيئا

حاولت في هذه التدوينة أن لا أحيد عن الفيلم، وأن لا أغرق في أفكار ذاتية كثيرة، فهو مليء بما يتسحق الإشادة والإشارة، قمت بنوع من التنظيم وإعادة الترتيب التي أرجو أن ترفع مستوى المتعة بعد المشاهدة.

فيلم 

I'm Thinking of Ending Things

في ليلة هادئة وباردة، ووالدا جايك لا يحبان الليل، وهو يحتفظ دائما بسلاسل في سيارته حتى إذا داهمته عاصفة ثلجية، أو كابوس مريع، لف بهما إطاراته كي يعود.

يصبح الطريق خاليا، هادئا، الثلج يتساقط، وابتسامتها تستحيل مشبعة بالحزن ‏العميق... وحدها ماسحة الزجاج هي من تظهر القلق الدفين في الحالة الصامتة ‏والهدوء القلق.‏

‏"الخطايا بيضاء كالثلج"‏، هذا ما يقوله الراديو مقتبسا من الإنجيل، حين يركب العجوز سيارته.‏

يمتلك جايك طريقا دائما للعودة، للخروج من مأزق أفكاره وكوابيسه، لذلك لا يخشى من العودة إلى الوراء، إلى ماضي سحيق وقديم، لكنه لا يجرؤ أبدا على النزول إلى القبو.

التفكير في الذات أمر متاح للجميع، لكن ليست كل آلام الذات ومعاناتها تتفتح أمام وعينا المباشر. يقرر جايك أن يصل إلى ذاته عبر وسيط. ربما كانت لويس أو أيا كان اسمها هي الفتاة التي يحلم بها دائما، تلك التي قال عنها في أغنية الخاتمة:

والفتاة التي أريدها لا تخش ذراعي

وتدفئني ذراعاها الناعمتان

وشعرها الطويل المتشابك

يسقط على وجهي

مثل المطر

في عاصفة

أو ربما كانت لويس هي ذاته الأنثوية، هي جايك في تجلٍ آخر. لا ندري، وحتى هي لا تدري، حين قالت وقد أشكل عليها الأمر: "التبست علي الحدود بيني وبين جايك. يريد أن يراني جايك باعتباري شخصا ‏يراه. يحتاج إلى من يراه ويمنحه القبول"‏.

في كلا الحالين احتاج جاك إلى وسيط بينه وبين ذاته، وقد التزم المُخرج بذلك، فجعل الرؤية من زاويتها، وكأنها بطلة القصة. نحن نراه كما تراه هي، نرى طيبته وغموضه، ونتعاطف معها حين تقرر أن تبتعد عنه.

يبدأ رحلته نحو ذاته بطقس جميل، ووجوه مبتهجة، يتساقط الثلج، وينذرها أن عاصفة ثلجية ستهب في المساء، إنه يعرف إلى أي كابوس سيمضي، لكن السلاسل في سيارته، لن ينهار في كابوسه، سيعود سالما. يبدو أنه اعتاد هذه الرحلة الذهنية وهو يتجول مستمتعا بغربته في المدرسة الثانوية.

يعيش جايك في قصائد الشعراء، ويرى أفكاره على خشبة مسرح متجسدة في شخصيات تشبه طلاب المدرسة الثانوية التي يعمل بها. يتعمد الدخول إلى المسرح أوقات التدريبات ليرى بروفات الرقص، ويجنح بالخيال بعيدا فيراهم يتراقصون في الممرات. يعيش في عالمه لكنه يرى أعين نابذيه ومحبيه، يرى نفسه متعاطفا مع المنبوذين وأقدر على فهمهم في مشيهم.

الأفلام، القصائد، المسرحيات، الموسيقى، الرقص، هذا هو عالمه، وهي أدواته لرؤية العالم. إنه اغتراب حقيقي وسط الزحام، وأي زحام وصخب أشد من مدرسة ثانوية!

 

 

قصيدة ضياع

العودة إلى المنزل فظيعة

سواء لعقت الكلاب وجهك أم لا

سواء كان لديك زوجة

أو شعورا بالوحدة تركه غياب الزوجة في انتظارك

العودة إلى المنزل موحشة جدا

 

ماذا تمثل علاقة جايك بالفتاة؟! إنه أمر مريع، أن يرى ذاته من خلالها مريبا وثقيلا في الحياة! بقايا سائل أصفر على شفته، يراه مقززا من عينيها،  تفكر طوال الوقت في إنهاء العلاقة، تتساءل: ما جدوى الاستمرار على هذا النحو! أعرف حقيقة الأمر ‏وما سيؤدي إليه، جايك رجل لطيف.. لكن.. العلاقة لن تستمر، أعرف هذا منذ ‏فترة !

وفي نظره أن كلا الاثنين يتمتعان بصفة الشبح، غير مرئيين، لا يلاحظهما أحد، إلا حين يكونان معا. إنها العلاقة ‏التي تمليها ضرورة الاستمرار في الحياة.

إنه متفهم لوضع المثليين، وحساس ‏تجاه ما يؤذيهم أو يجعلهم في خانة المنبوذين، وهي تعشق فتاة لكنها فضلت ‏العلاقة مع رجل، لأنه الحياة ستكون أسهل.. علاقة الضرورة لا أكثر. لنتذكر أنه يرى أن هذا ما يستحقه في هذه الحياة، وأن الحياة لن تمنحه أكثر.

يمضي في طريقه نحو الماضي، تقول هي أن الحياة مثل قطار موسليني، يسير بدقة إلى وجهة محددة.‏ ونحن لا يمكننا القفز من القطار إلا في الأفلام، أما في الواقع فإن قفزت فإنك ستموت. يقول "يبدو أنني افرط في مشاهدة الأفلام".‏

يشغله الزمن، والتقدم في السنّ، وكل هذه الأكاذيب التي تجاوزنا بها منتصف العمر، وفي لحظة تشبه الانهيار يقول: ‏"المجتمع يفتقد التعاطف مع معاناة الآخرين، المعاناة التي تشكلت بسبب مشكلات ‏الحياة، مثل الشيخوخة، يتداعى الجسد والسمع والبصر. لا ترى أحدا ولا يراك أحد. ‏بعد أن سلكت كثيرا من المنعطفات الخاطئة.

أيضا كثير من الأفكار الكاذبة مثل: الأمور ستتحسن، والأوان لم يفت أبدا، وأن ‏الرب له خطة لك، ‏ وأن العمر مجرد رقم، وأن الطلمة تشتد دائما قبل الفجر، وأن ‏لكل شيء جانب مشرق، وأن هناك شخص مقدر لكل شخص."‏

حين يصلان إلى البيت، تلوح له أمه من النافذة، لكنه غير مستعد بعد، يختلق عذرا غريبا لإبطاء ‏الدخول.. العثور على والديه في ذاكرته ليس أمرا سهلا، حتى حين يدخل يتباطآن في النزول، عقله لا يحتمل هذه المواجهة!

يقودها إلى الحظيرة، تقول: "يوجد شيء حزين هنا، في منظر الخراف، والرائحة كريهة.."‏، "ما هو شعور الخراف، التي تعيش في هذا المكان، كل يوم، في هذه الرائحة وهذا ‏المكان البائس والحزين.. كل يوم طيلة حياتها!‏"

على الجانب خراف ميتة ومتجمدة من الثلج، هذا يصيبه بالتوتر، حتى أنه لا يريد ‏التفكير بالأمر، لكن لا بأس بالتفكير في الخراف الحزينة، وحتى أنه يجد رغبة في ‏الحديث عن الخنازير التي أكلت بطنها الدود وهي حية.‏ لكن الموت أمر أشد صعوبة، إن الرحلة الذهنية بكاملها لا تصل إلى الموت بعد، هذا كابوس آخر، وله ليلة باردة أخرى.

الخنازير، نسي والداه أن يتفقداهما، يرمي والده الطعام لهم كل يوم، ثم بعد زمن لاحظ ‏أنها لا تتحرك من مكانها. حين دفعها وقد كانت ثقيلة، وجد الدود يلتهما حية.

في البيت تحفة صغيرة للخنازير، على العشاء تقدم قطعة منهما... يبدو أن هذا ‏الإهمال لا يضرّ الوالدين.. لا ينزعجان وتستمر الحياة برغم أن الخنزير الثقيل في ‏البيت تلتهمه الديدان، والبقة السوداء القاتمة شاهدة على ذلك.

‏تقول: "من التخيلات البشرية الفريدة أن الأمور ستتحسن، ربما تُولد من الإدراك البشري ‏الفريد بأن الأمور لن تتحسن. لا سبيل لمعرفة ذلك يقينا. لكنني أظن أن البشر هم ‏الحيوانات الوحيدة التي تعرف حتمية موتها. تعيش الحيوانات الأخرى في الحاضر. ‏البشر لا يستطيعون، وهكذا اخترعوا الأمل."‏

يدخلان البيت، كل شيء منظم ومرتب، باب القبو عليه آثار اللاصق، وخدوش كثيرة. يقول إنها من الكلب، أين الكلب؟! هاهو يخرج من العدم، دائما ينفض عن نفسه الرذاذ قادما من الخارج. يبدو لطيفا، وآثاره في البيت كله، حتى في غرفة نوم جاك، لكن لا أحد يعلم قصته.

"القبو غير مكتمل، إنه أشبه بحفرة في الأرض!"

برغم طفولته الغامضة والهادئة بحسب ما تشير غرفته في الأعلى، والمريعة بحسب ما يشير القبو، فإن متجر الأيس كريم يضيف إليها الحيوية، ونراه يغني في السيارة بفرح ونشوة طفولية. لكن المتجر أيضا يحمل ذكريات مختلطة، ذكريات التنمر والنبذ.

والده لا ينظر إليه أبدا، ويركز نظره إلى الفتاة حتى حين يحدثه، إنه ينظر إليه ‏من الخارج، من نظرة الآخرين إليه! يسترق هو النظر إلى والده بتوتر بالغ. ‏أمه تعامله بدلال ساذج يثير أعصابه، ينظر إليها بفوقية الذكي المتعلم، إنها لا تفرق ‏بين الكلمات، لا تعرف اللغة.. تقول أي شيء عن طفولته دون حساب. تحاول أمه ‏أن تكون لطيفة معه وبحضور ضيفته، لكنها تقع تحت ضغط هائل يظهر على ‏حركات جسدها ووجهها، فتقع في الأخطاء دائما.‏

يقول إنها رسامة، ينتقد والده رسوماتها دون لباقة وبإصرار، بل إنه يهين منظورها ‏الفني، إنه هو الرسام في الحقيقة، حين تكتشف ونكتشف نحن لوحاته في القبو، الحفرة غير ‏المكتملة، أو مقبرة روحه.

يصرّ والده على إهانة منظورها لرسوماتها، تقول الأم فجأة في مفاجأة ولمحة ‏غضب عابر "لماذا لم تخبرنا أن حبيبتك فنانة وموهوبة!!"، يقول بكل ثقة: "لقد ‏فعلت، لقد أخبرتكم!!" فيما يبدو أنه يتحدث عن نفسه، أنه أخبرهم مرارا بأنه يحمل ‏فنا وموهبة. لكن أمه أيضا بحاجة أن تنظر إليه من الخارج كي ترى موهبته، إنها ‏أيضا لا تراه على حقيقته حين تنظر إليه.‏

تخطئ الأم في معرفة تخصصها، ويستنكر الأب أن تتجه للفيزياء وهي فتاة. ‏كل هذا الإهمال واللا مبالاة وعدم التقدير يبدو أنه موجه في الأساس إليه.‏

‏"بعد الصف السابع لم أستطع فهم ما يقوله جايك" تقول الأم.‏

يسأل الأب عن وجود شريكين في تخصص الفيزياء، كأنهم يستكثرون على ابنهم أن ‏يجد فتاة. نعم هناك أمل، هكذا تقول لغتهم. في الحديث عن اللقاء الأول بينهما، يبدو الأب ‏فظا، ويتعمد إيجاد الثغرات، إنها ليست قصة جيدة لتروى، كأنه يقول هكذا، حتى ‏حين وجد جايك حبيبته لم تعجب والده قصة لقاءهما، مع أن القصة تتغير. ربما ‏تتغير لأنها لا تستقر في خيال جايك على سيناريو واحد، إنه يطورها، يطور أمنياته ‏وخيالاته، ربما ليرضي والده، وربما حتى يرضي نفسه.‏

غرفته غرفة طفل، سريره لطفل ولا يكاد يكفي لولد راشد، ومع ذلك يرى والده أنه ‏منفتح إن أراد أن يمارس ابنه الجنس مع صديقته على هذا السرير!‏

لنتذكر هنا قسوة جايك على نفسه، أيا كان مصدر هذه القسوة، فحين تلوح له فكرة الجنس ولو بشكل عابر، يلوم ذاته عن طريقها، عبر الخط ‏الفاصل الدقيق بين الجنس بالتراضي والاغتصاب، يعتذر، رغم عدم يقينية ذلك. ‏وحين يقبّلان بعضهما يرى ذاته تتلصص عليه. تلصص المنحرفين. فينتفض انتفاضة اليقظة من الكابوس.

إنه لا يوافق على أن أمه هي سبب مشكلاته، وعلى لسانهما فإن على المرء أن يتحمل مسؤولية هويته، دون الاكتراث بكل الهراء الذي ينسب النقص إلى طرف ثالث.

حتى حين حصل على شارة الاجتهاد في سن الثامنة، يشيد به والداه، لكنه غير راض عن جائزته، ‏لقد أراد شارة الحكمة وليس الاجتهاد. أراد أن يثبت لوالديه أنه يحمل موهبة فريدة تخصه.

لنتذكر هنا أن الكابوس هو كابوسه، وأننا نراه في عقله، وأن منظر والديه له هو ما يراه هو فيهم.

في عين الفتاة يبدو لطيفا طيب القلب، وأحيانا يبدو كمن يخفي شيئا ما، قلقا، يدبر أمرا.. ‏وهو كما تقول أيضا ذكي جدا، لكنه "يوجد به شيء يستحيل وصفه، يوجد هنا شيء غير طبيعي، ولا يمكن وصفه ‏ولا إصلاحه"‏

يعتني بأمه في كبرها، ويبدو منشغلا بها، في هذه اللحظة تنهال عليه بثناء مبطن، ‏‏إنه مجتهد وغير موهوب. تقول لوسي: إنه لطيف ‏‏جدا، عنايته بأمه مثير للإعجاب. ويقول إن هذا يواسيه جدا، لأنه يشعر أن لا أحد ‏‏يرى ما يفعله من خير! إنه وحيد!‏

يرن هاتف الفتاة، المتصل هو اسمها (لوسي) و (لويزا)، وحين ترد بعد عشرات ‏المرات، يجيبها صوته العجوز: ‏

هناك سؤال واحد علينا حله، أنا خائف. أشعر بأنني مجنون. لست واعيا. كيف.. ‏الافتراضات صحيحة. أشعر بخوفي يزداد. الآن حان وقت الإجابة، سؤال واحد ‏فقط. سؤال واحد يحتاج إلى إجابة.‏

حين ينتقل الحديث إلى (كبار السنّ) يتداخل الأمر بين عناية جايك بوالديه، وقلقه عليهما، وبين قلقه على ذاته، وحديثه عن نفسه. إنه يقرأ في علم الشيخوخة، يعتني بأمه في مرضها، وبأبيه في خرفه، ويعود سؤال الزمن، تقول لويس "يحلو للناس الاعتقاد بأنهم نقاط تمضي عبر الزمن، لكني أعتقد أن ‏العكس هو الصحيح، نحن ثابتون، والوقت يمر عبرنا، يهب كريح باردة، يسرق ‏حرارتنا، يتركنا مشققين ومجمدين"‏، ,تقول: "كل شيء يجب أن يموت تلك هي الحقيقة، يصور المرء لنفسه أن الأمل ‏‏موجود دائما، أنه يستطيع العيش فوق طائلة الموت".‏

 

في صورة خيالية تحاكي الأفلام، ينبعث الخنزير بعد انهيار كابوسه، يمضيان معا، عراة، متشابهين، متداخلين، منسجمين، ينفضان الدود عنهما، ويفتح الخنزير بحكمته أملا أخيرا: "لا بأس بالأمر حين تكف عن الرثاء لنفسك، لأنك مجرد خنزير، أو ‏أسوأ، خنزير مليء بالديدان!‏

هناك من يجب أن يكون خنزيرا مليئا بالديدان، أليس كذلك!‏

لعله أنت، إنها مسألة حظ!

تتقبل قدرك، تستغل معطيات الحياة بأفضل طريقة ممكنة، تمضي قدما. ولا تقلق ‏حيال أي شيء.‏

طيبة القلب موجودة في الدنيا، لكن عليك أن تبحث عنها"‏

يقف على المسرح يحاكي أمنية قديمة، مجد العلم والمرأة التي أحبها. الوقوف على المسرح والتصفيق، الكلمات البليغة الخالدة التي تجري على لسانه. يعود إلى نوع من اليقظة ليغني:

تطقطق الأرضية

يصدر الباب صريرا

أحد فئران الغيط يقرض مقشة

وأنا أجلس وحدي

كشبكة عنكبوت على رف

وحدي

في غرفة موحشة

لكن حين يلوح قمر في نافذتي

ويطلق شعاعا على فراشي

يظهر ظل شجرة

ويبدأ بالرقص على الجدار

ويبدأ حلم يرقص في رأسي

وكل ما تمنيت من أشياء

تصبح كما أردت

وأنا أفضل من ذلك الفلاح المزعج

الذي يحسب نفسه أفضل مني

والفتاة التي أريدها لا تخش ذراعي

وتدفئني ذراعاها الناعمتان

وشعرها الطويل المتشابك

يسقط على وجهي

مثل المطر

في عاصفة

‏**‏

‏ تطقطق الأرضية

يصدر الباب صريرا

أحد فئران الغيط يقرض مقشة

وتبهر الشمس عيني

كانت كلها أكاذيب

لقد أفقت

في غرفة موحشة

لن أحلم بذراعيها بعد الآن

لن أتركها وحدها

سأخرج من غرفتي

سأبحث لنفسي عن عروس

ستكون لي امرأة أنا وحدي


تعليقات