إن هذا لصدق عظيم


 

إن هذا لصدق عظيم

حاولت جاهدا كما ألحت أمي أن أتجاوز لقاءنا الأول لكنني لم أستطع إلى ذلك سبيلا، إنني في كل يوم أفكر في ذلك اللقاء الذي تم بتدبير بعيد عن الصدفة، وعن أنه كيف يمكن لأي علاقة مهما كانت أن تبنى على ما حدث في تلك اللحظة. لا يمكن للمرء أن يغفر وجوده العاري وبكاءه حتى النشيج وتيهه في عالم مفتوح لا نهاية له، وحواسه المغلقة التي تنفجر فجأة بأضواء جهيرة وأصوات صاخبة وهواء وأيد بحجم الجسد. إن صدر أمي لم يكن كاف في تلك اللحظة لنزع الفزع من قلبي.

أنا أيتها الحياة أسير لحظة الفزع الأولى إثر لقائي بك. ألم يكن ممكنا لنا أن نلتقي بأيسر من ذلك، بحواس دافئة وعقل واعي وفكرة أولى تحكي شيئا، أكان الصراخ ضروريا وخروجي المفاجئ حتميا!

إن وجودا يفضل هذا النوع من اللقاء إنما يعد بحياة مليئة بالعذابات، ولا أستطيع أن أقنع نفسي بغير ذلك. فكل لحظة فرح موعودة بالألم، وكل أمل مغموس ومبطن بالشؤم، أنا لا أصدق دعوى محبة من صوبني برصاصة فكيف بدعوى من صافحني عاريا وصارخا وباكيا بأنه يريد سعادتي!

إنني أفكر أنه لا سبيل إلى تصفية الأجواء بيننا، بل إنني كلما اعتراني خوف وفزع أشك بأن مرجعه إلى تلك اللحظة الأولى، أولم يخطر لك ببال بأن أثرها سيكون ممتدا إلى لحظة الموت.

متى علمت بموت أول إنسان في حياتي، يصعب عليّ تذكر ذلك! ربما كان جدي الذي توفي وأنا بعمر العاشرة، أذكر عين أمي المحمرّة، ومجلس العزاء الباكي، أو صورة خالي الشاب الذي أخبرتني أمي أنه توفي مبكرا، أو جدتي لأبي التي توفيت في حجري ونحن في طريقنا إلى المستشفى، وجدتي الأخرى التي توفيت أمامي على السرير الأبيض، وآخرون غيرهم. تلك اللحظة التي سمعت فيها بعضهم يشخر وآخرون يشرقون. لقد كتب عليّ أن أرى لحظات الوداع حتى أعي خروج الروح من محبسها.

إن وعيي بالموت لا ينفك عن لحظة الفزع الأولى للقاء الحياة، وإنني لأهرب من الموت خوفا من ذلك العراء أمام السماء، فبدلا من أن تتلقاني أكف بشرية، ثم أشم جسد أمي، ستتلقاني أرواح الملائكة التي لا أعرف عنها سوى ما آمنت به.

لست أيتها الحياة مدينة لي بشيء، إنني أشرح سبب التوتر والفتور الحاصل بيننا، وحين تحاولين إغرائي بأنهارك الجارية، وبساتينك وغاباتك وجبالك، وهوائك وسحبك وأمطارك، فإنني أميل إلى أن أفكر دائما بزلازلك وبراكينك، لأن الفزع أصيل في داخلي، وليس عليك أن تلومينني على ذلك، بل لومي لحظة اللقاء الأول المتكرر مع كل روح وافدة.

لا يفكر الغريق بشكله المزري الطافح بالذل وهو يحاول الإمساك بقشة، هذا الانفراط لسلطته على يديه ورجليه، وعضلات وجهه المشدودة، وفمه المتهدل تارة والممطوط أخرى، هذا الإزراء مبك في لحظته ومضحك بعد نجاته، وكم يبعث على الأسى قدرة لحظةٍ على إذلالي. فكيف ببداية من لحظة الإذلال بدءا بالعراء والتيه وفقد المعلومة الأولية للنجاة مع طغيان غريزتها، انتهاء بالحالة نفسها في أرذل العمر! هل عليّ أيتها الحياة أن أحتفل بزهرة العمر الراحلة، المشحونة بلحظات الذل والفزع وسط كل لذة وجمال!

إنني أخاف الفقد، من تلك اللحظة التي خرجت فيها من دفء الرحم إلى برد الوجود الممتد، لا أدري إن كان صوت أمي كاف لطمأنتي بعد أن اقتادوني بعيدا عنها، بعيدا جدا في غرفة مليئة بصراخ أقراني الوافدين في ذلك اليوم من أبناء برجي النجمي. قالت أمي إن مرض الصفار أصابني فأرجئوا خروجي، ذهبت وحيدة إلى نفاسها وبقيت تحت الضوء الأصفر، وما إن تعافيت حتى أمسك الطبيب عضوي بمبضعه معملا قوة الآلة في أعمق كياني ألما. قالوا إن علي أن أكون ممتنا فالألم ذاكرة وأنت لا تتذكر تلك اللحظات. لكنني أيتها الحياة أسالك عن كل لحظات الألم اللاحقة وصلتها بذاك الألم الأول، بمقص قطع حبل الصلة بأمي، ثم ألم المرض الأصفر، ثم في إزالة قطعة الجلد الزائدة. كل ألم لاحق يعود ليقيس نفسه في عقلي على الألم ذاك، حتى إذا أصبح فعلا يوميا كعادة، أدركت أنني فهمتك، وأدركت ما لقاءنا ذاك. في حين كنت مستعدا دوما لأمل كاذب ينسيني تلك الحقيقة.

أنا أيتها الحياة أحمل قابلية لا نهائية للكذب، فامنحيني كذبا سعيدا لأنسى، وسأنسى، وسأرسل اللعنات على كل ذكرى تتسلل إلى مقدمة رأسي زاحفة نحو عضلات وجهي ومقدمة لساني، وسأحلف كما يحلف التائبون أنني لن أعود لمثل هذه الترهات ولو على سبيل المزاح، وحتى فلتات اللسان فأنا أحلف يمينا أخرى بأنني كفيل بها، سأردد مرة تلو أخرى عند شروق الشمس وبعد زوالها بأنني سعيد حتى يعتاد لساني الكذب.

إنني مدين لك بشيء أخير، أنني عرفت معنى للسعادة كالدِّيم في وسط الألم، يتسلل خفية في شربة ماء لا تملأ المعدة لكنها تبل جوفي وتسندني بقية اليوم، ولنومة هنيئة وبال خالي وبقية من أصدقاء ينظرون لي بعين الرضا، وآلٍ صامدين لا يملون ولا يتعبون، أكتافهم صنعت على عين ربي من عصا موسى وقلوبهم نسجت من روح هارون. إن هذا لصدق عظيم.

 

تعليقات