بول أوستر في (1234)


 

بول أوستر في (1234)

إن صدق حدسي فـ بول أوستر سيكون مؤثرا على جيل روائي عربي قادم. وقد كنت محظوظا بمعيّة عمله الكبير (1234).

هنا أقدم قراءة في جوهر فلسفته، وهي قراءة عجلى بالطبع.

 

ثمة طريقان للذهاب على مقابلة عمل تخصك، الأول رئيسي مزدحم، إن لم يكن هناك حادث سير فستستغرق الرحلة عشرين دقيقة ببطء وانتظام. الثاني فرعي وخطر، ذو اتجاه واحد، ستصل مسرعا في غضون خمسة عشر دقيقة، إن سلمت من الحوادث.

إن سلكت أيا من الطريقين ووصلت لهدفك فلا توجد مشكلة، لكن إن سلكت الطريق الرئيسي وصادف أن حادث سير هناك قد اغلق الطريق، فستفكر ماذا لو سلكت الطريق الفرعي.. "الشيء الوحيد الذي يشغل تفكيرك سيكون الطريق الفرعي، ولماذا لم تسلك ذلك الاتجاه بدلا من هذا؟ ستلعن نفسك لاتخاذك القرار الخاطئ، لكن، كيف تعلم حقا أنه كان الخيار الخاطئ؟ هل يمكنك رؤية الطريق الفرعي؟ هل تعلم ما يحصل في الطريق الفرعي؟ هل أخبرك أحد أن خشبة شجر أحمر ضخمة وقعت عبر الطريق، وسحقت سيارة عابرة، فأهلكت سائق تلك السيارة، شلت حركة السير لثلاث ساعات ونصف"،"هل نظر أحد إلى ساعته، وأخبرك أنك لو نظرت إلى الطريق الفرعي، واخبرك أنك لو سلكت الطريق الفرعي، لكانت سيارتك التي سحقت وأنت من قتل؟ أو أمر آخر: لا شجرة وقعت، وسلوك الطريق الرئيس كان الخيار الخاطئ. أو أمر آخر: أنت سلكت الطريق الفرعي..."، "أنا أقول إنك لن تعلم أبدا إن اتخذت الخيار الخاطئ أم لا، ستحتاج إلى الإلمام بالحقائق جميعها قبل أن تعرف، والطريقة الوحيدة للإلمام بالحقائق كلها هي أن تكون في مكانين بالوقت نفسه، وهو الأمر المستحيل.".

فلسفة بول أوستر في كثير من أعماله مبنية على أن الحياة تقوم على الظروف والمصادفات، لست بحاجة إلى تعليل كبير لشخصية قاتل في الرواية. كما الحياة الواقعية، القاتل يصبح قاتلا بعد شجار حدث صدفة في الشارع. ذاك الإنسان حين استيقظ من نومه لم يكن قاتلا، وحين نام في الليلة قبلها لم يكن قاتلا، لا مخططات ولا هواجس، التقى بالرجل الخطأ في ظرف جعل منه كذلك. كل شيء سيتغير بالنسبة إليه بعد حادثة القتل هذه. هذه هي الحياة الواقعية.

بدلا من التكثيف في الأحداث حتى نرى الصورة الحقيقية عن قرب، يفضل بول أوستر أن يبقي الأمور على ما هي عليه، لذلك هو ليس مدهشا في سير أحداثه، وإنما في مجموع عمله، وكامل نصه.

معرفة الموت شيء، والوعي به شيء آخر. كذلك الفقد، والحزن، والفرح، والحب، في لحظة ما وظرف ما تعي بكل أحاسيسك وجسدك معنى من المعاني، فيعيد إنتاج مشاعرك الأخرى أو يختلط بها، وتزداد وعيا.

لكل عصر أيضا أسئلته الوجودية الملحة، وقد بنى ديستويفسكي أعماله على تأنيب الضمير الداخلي، الذي عده إفرازا للعصر الحديث، حيث لم يكن ذلك من أزمات الإنسان في العصور التي سبقتنا. وبنى كافكا أعماله على علاقته بوالده في (التحول) و (رسالة إلى والده)، وعلى علاقته ببيروقراطية الدولة الحديثة في الـ(القلعة)، (المحاكمة). كما طرح ساراماغو أسئلته، وميلان كونديرا أيضا، التي هي في جانب منها أسئلة الكاتب الذاتية، وفي جزء آخر ملتصق ومنسجم مع الأول، أسئلة عصرية كامنة وملحة.

بول أوستر مهموم بالعصر الحديث وما يفرزه من تساؤلات، لذلك هو ابن نيويورك الذي يكتب عنها، وهو اليهودي الأمريكي الذي يكتب عن يهوديته، وأعماله لا تنفك عن حياته ولا عن سيرته الذاتية. وأسئلته التي يثقل بها أعماله هي أسئلة ذاتية وعصرية، ونحن كلنا بشكل أو بآخر واقعون تحت ضغطها وسلطتها.

معرفة الممكنات شيء، والوعي بها شيء آخر. من الممكن أن تجد كتابات فلسفية قديمة أكثر عمقا في التفلسف عن ما نتحدث به الآن، لكنه لن يخرج عن كونه طرحا لاهوتيا كلاميا. أما ما يقوله بول أوستر في روايته (1234)، فهو الوعي بهذه الممكنات، الوعي الذي يحيله إلى جنة الممكنات، أو جحيم الممكنات. رحمة الممكنات، أو لعنة الممكنات.

بنى بول أوستر روايته على حبكة متقنة، وعلى قدر ما تبدو العملية سهلة وبسيطة، إلا أنها معقدة للغاية. هو يفترض أن ثمة سيناريوهات أربعة للشخص ذاته، (فيرغسون).

السؤال الذي أفترض أن أوستر بدأ منه، أين ستكون بداية الممكنات، فلو افترضنا أنها الزمان والمكان، فغالبا أو حتما ستفشل التجربة، لأننا بدون زمان ومكان لا نشبه حتى ذاتنا. ما فعله أوستر أنه قام بتثبيت عدة عوامل: (الزمان، المكان، العائلة، الجنس، الشكل، وكل ما يمكن أن يورَّث). وأيضا قام بتثبيت الكثير، والكثير جدا من عوامل النشأة. وبدأ باللعب على بعض المتغيرات التي تبدو ضخمة للقارئ، لكنها بالنسبة لما هو ثابت هامشية وضئيلة، وتدخل في (المصادفات) التي تخلق (الممكنات). ثم يرسم لنا أوستر ما يمكن أن يحدث في جوهر هويتنا بناء عليه، إنه أمر مرعب، هذا الوعي الذاتي الذي يحصل لنا بالممكنات، ليس بما نحن عليه، ولكن بما كان يمكن أن نكون عليه.

تعليقات