من أخذ قهوتي!

 

من أخذ قهوتي!


كانا يهمان بالدخول حذرين من الغبار المتراكم بسبب أعمال البناء. تكاد الشمس أن تغيب، رفعت هي مفتاح الكهرباء فأضاءت الممرات. كان عليهما أن يقدما تقريرهما النهائي لاستلام البناية من المقاول.

طلبت منه أن يسبقها إلى السطح ريثما تنادي الحارس. حين فتح باب المصعد وجده نظيفا فشعر بغرابة عابرة. ظهرت له الأرقام، الأول، الثاني، الثالث، الرابع، توقف المصعد قبل أن يبلغ الخامس، ثم انطفأت الكهرباء، وحل ظلام دامس. أضاء هاتفه الجوال، رفع سماعة الطوارئ، لا شيء يعمل. صرخ، نادى... لم يجب أحد. انتظر لحظات ريثما تكتشف الأمر وتأتي لإخراجه. لم يكن متوجسا سوى من الظلام والحرّ الخانق. تصبب العرق من وجهه، وغمر قميصه ناحية الياقة. وبعد أن تضاء الأنوار مجددا سيرى كم ابتل بعرقه. الهاتف الجوال لا يعمل في مكان معزول كهذا. صرخ مرات ومرات، ولم يجب أحد.

بعد أربعين دقيقة بالتمام  أضاء المصعد وعادت الكهرباء، وتدفق الهواء البارد. رفع رأسه إلى الأعلى، عادت الحياة إلى وجهه، ضغط الأزرار، رفع السماعة، لا شيء يعمل. وقف حائرا ينادي. بعد عشرين دقيقة فتحت سقف المصعد، وأطلت عليه من الطابق الخامس. "أين كنتِ، كدت أموت هنا". أنزلت كرتونا عبر حبل، وقف ينظر إليه مدهوشا ينزل ببطء مثل منطاد حتى استوى على الأرض. "هنا طعام وأكياس للفضلات". ثم أنزلت آخر مليئا بقوارير الماء البلاستيكية. "يمكنك استعمال القوارير الفارغة للتبول". "ماذا تفعلين؟! غبت كل هذا الوقت حتى تأتيني بالمؤونة؟! اطلبي أحدا يخرجني من هنا بدل هذا الهراء".

"عليك أن تصمت وتستمع أيها الأبله، هيا توقف عن الصراخ، وكف عن الذعر مثل الأطفال!"، استمرّ بالصراخ ونعتها بالمجنونة. اكتشف أخيرا أنها من دبرت هذا. "سأعود حين تهدأ". مضت وهو يصرخ. انطفأت الكهرباء، عاد الظلام والحرّ الخانق. استكشف الكرتون بضوء جواله، سندويشات مغلفة، عصيرات، أربع تفاحات وكثير من التمر.

عادت الكهرباء. أطلت عليه من السقف، كان هادئا هذه المرة. "لا يوجد أحد في هذه البناية سوانا، عليك أن تكون هادئا ومطيعا. هل أكلت وجبتك؟"، "هل هذا مقلب سخيف!"، "هل ترى أي علامة من علامات المقالب! أنت محتجز هنا، وليس لديك غيري، عليك أن تفهم الوضع الذي أنت فيه". "ماذا تريدين مني؟". "هذه نقطة جيدة للبداية، أولا ستبقى هنا لوقت قد يقصر وقد يطول. هذا يعتمد على أمور كثيرة، لكن يجب عليك أن تعي أن المكان يحتمل بقاءك شهرا على الأقل". "سأفعل ما تريدين"، "ها أنت تفهم الآن".

هي في الأعلى، رآها تمد بساطا ثم جلست ووضعت أمامها كيس بقالة. يظهر له أيضا أن مروحة تدفع الهواء تجاهها. رفعت شعرها، ونظرت إليه. "قبل شهرين بدأ عملي في الشركة، أشار أحدهم إليك، قال إنك أقدم موظف، وإنك تعمل في هذه الشركة الناشئة منذ نشأتها. أخبرني.. كم عدد الموظفين الذين مروا عليك"، "عشرون، أو ربما ثلاثون"، "لقد أحصيتهم، كانوا أربعين موظفا، منهم خمس عشرة فتاة، كلهنّ دون الخامسة والعشرين"، "كلّ موظفي الشركة دون الثلاثين"، "هل كنت مصدر أذى لكل الفتيات اللاتي عرفتهن؟"، "لا أدري عن ماذا تتحدثين".

وقفتْ، أخذت لوحة من خلفها، ربطتها بالحبل ثم أنزلتها برفق، "خذها وعلقها على إحدى جدران المصعد، الشريط اللاصق موجود في الخلف". لوحة صفراء رسمت في نصفها فتاة تنزف من قلبها، لكن النزيف كان من جهة اليمين. لا توجد معالم في وجهها، لا عينان ولا أنف ولا فم ولا أذنان، اليدان مرتخيتان. تجثو على ركبتها وظهرها منحن إلى الخلف. "ما الذي تراه"، "فتاة تنزف"، "وماذا بعد؟"، "لا أدري، الصورة ناقصة". "هذا صحيح"، رمت إليه أربعة أقلام ملونة، "أطلق خيالك وأكمل الرسم". "أرجوك ما الذي تفكرين فيه، وما الذي جنيته بحقك!".

"سأذهب إلى الحمّام، بإمكانك أيضا أن تتبول أو أن تفعل ما تشاء. هيا فليس لدينا كثيرا من الوقت". عادت بعد عشر دقائق، أنزلت كرتونا فارغا بالحبل، "أعطني مخلفاتك"، وضع قارورتين، حملتهما إلى الأعلى، غابت دقائق ثم عادت.

كانت تقضم تفاحة خضراء، "حين بدأت العمل في الشركة اعتقدت أنني في يوم من الأيام سأكون أقدم موظفة فيها، لقد أحببت كل شيء، ساحة المكاتب المفتوحة، ضحكات الزملاء في الصباح، الهدوء وقت العمل، موسيقى الجاز بعد الظهر. حتى أنني أصبحت أدخن سيجارة واحدة في اليوم، فقط من أجل الوقوف خارج المكتب، والمشاركة في حديث المدخنين تحت حرّ الشمس".

قضمت المزيد من التفاح، أسندت رأسها إلى إطار الباب ونظرت إلى الأعلى، ثم إليه. "هل تعلم كم عدد الأمتار التي تفصلك عن القاع؟ قرابة خمسة عشر مترا"، ابتسمت للحظات ثم أتبعت "اشتريت مغلفات القهوة الخاصة بي، النكهة المفضلة لدي، وأيضا البسكويت الذي أحبه. في الأسبوع الثاني لاحظت أن مغلفات القهوة تتناقص"، "أوه بربك، هل هذا ما تودين حكايته الآن"، "دعني أكمل، فليس من الجيد لك أن تغضبني. يجب عليك أن تسمعني وأنا أروي ما حصل"، قامت من مكانها، وابتعدت حتى غابت عن نظره. "أظن أنني بحاجة إلى أن أروي، وأستمع لنفسي بوجودك، أو ربما أن تستمع لي بوجودي، أو ربما أن أحكي فقط، هذا أمر محير فعلا"، أطلت عليه "ما رأيك؟"، لم يفهم ما تقول، بدى له جنونا من نوع ما.

"في الأسبوع التالي، أحضرت مغلفا لكل يوم، وحين كنت آتي في الصباح أكتشف أن أحدا ما قد سبقني وشرب قهوتي وأكل قطعة البسكوت المحببة إليّ. سألت زميلاتي فلم يكن لديهن جواب، سألت زميلا فأشار إليك، "إنه هو". سمع البقية جوابه، فقالوا جميعا إنه أنت. لم تنكر ولم تخجل، ابتسمت وقلت نعم إنه أنا. قلت لك إنها قهوتي وطعام إفطاري المفضل والوحيد. ضحكت وكأن لا شيء يحدث. في اليوم التالي جئت صباحا فوجدتك فعلت الأمر نفسه، سألتك أمام الموظفين، فضحكت وقلت إنها مجرد قهوة وبسكويت. وكذا في اليوم التالي والذي يليه. واظبت أنا على إحضار القهوة شهرا كاملا. شهر كامل وأنا أتعرض للإهانة في كل يوم، وأنا أفقد احترامي كل صباح، وأنت تضحك وتتفاخر وسط زملائك".

"اسمعيني، لقد أخطأت، كانت مزحة ولم اقصد إهانتك أبدا"، "أنت كذاب لعين، لم تكن مزحة، الإيذاء لا يكون مزاحا أبدا. أتدري، عندي لك خبر سيء، وهو أن هذه الطبيعة لا تتشكل فجأة، أنا أتساءل عن عدد الذين تسببت لهم بالأذى في حياتك. سأتركك الآن حتى تكمل الرسم. أطلق خيالك. يجب أن تكون مقنعا لي، مقنعا بالشر الذي في داخلك وليس بالخوف أيها الجبان".

سمع صوت قدميها تنزل من الدرج. فكر في الخروج، وضع رجليه على الجانبين، وبالكاد أمسك إطار السقف المفتوح. الجدار أملس، ومسافة طويلة تفصله عن المكان الذي تطل منه. يبدو أنها قد خططت لكل شيء. نزل مرة أخرى. انتبه الآن لتفاصيل المصعد، نظر في المرآة فوجد وجهه مجهدا وقميصه متمعجا بعد أن جفّ من عرقه. خلع حذاءه وشرّابه، ثم ربطة عنقه، فك زرار الكمين ورفعهما، ثم قرر خلع القميص والجلوس بالفانيلا البيضاء. نظر حوله في الفوضى التي أحدثها. فقرر ترتيب المكان. وضع كرتون الماء في الزاوية، وفوقه الكرتون الآخر. كوّم حاجياته. حمل اللوحة وعلقها على الحائط الجانبي، نظر إليها قرابة عشر دقائق. ثم اخذ القلم الأسود ورسم العينين، كانتا صغيرتين، فعمل على تكبيرهما فأصبحتا قبيحتين. رسم أنفا كبيرا، وفما صغيرا. أصبحت ذات وجه قبيح. تبدو معوقة، أو مبعوجة الوجه من الضرب المبرح. بمقابلها رسم قطا بأذنين كبيرتين، أو نمرا بوجه صغير، كانت النتيجة وشقا دون قصد منه. لكنه أعجب به وقرر أن يكون الشكل وشقا. يرفع كلتا يديه، وتظهر أنيابه وأظفاره. قرر أن يكون للوشق ثلاثة أيادي. فرسم يدا إضافية تغرز أظفارها في قلب الفتاة جهة اليمين. انتبه إلى أنه لم يستخدم سوى اللون الأسود. فرسم دماء زرقاء على ناب الوشق، ودموعا حمراء في عين الفتاة.

سمع صوتها وهي تقترب، رمت إليه بسندويشة فلافل، "لا تأكل كثيرا حتى لا تضطر إلى إخراج فضلاتك". انتبهت للوحة ونظرت إليها، تمددت على بطنها وأرخت رأسها، "عظيم، أنت تملك خيالا خصبا، ويدا خرقاء". بدأت تأكل سندويشتها. جلس على الأرض، وشاركها الأكل من مكانه. يبدو أنه قرر مسايرتها الآن، وأن يكون الرهينة المطيع. "أوه نسيت، أحضرت لنا شايا" سكبت لنفسها من حافظة ماء صغيرة، ثم أنزلت إليه الحافظة.

"متى كنت تأخذ مغلف القهوة الخاص بي؟"، قال بصوت هادئ كأنه يطلب عفوا ضمنيا "أحضر في الصباح مبكرا قبل الجميع، أفتح درجك، وآخذ المغلف، وقطعة البسكويت. أشرب القهوة وألتهم البسكويت قبل أن يحضر أحد". "هل كنت تشعر حقا بلذة السرقة"، "كيف تكون سرقة وأنت تعلمين أنني أستولي عليها كل يوم!". "هذا صحيح"، "في الأسبوع الأول، حين رأيتك تأتين مرحة وشغوفة وطموحة، تجلسين على مكتبك، وجهك مشرق، تنظرين إلى شاشة الكمبيوتر بحماس. ثم تسكبين الماء المغلي على قهوتك. تأكلين قطعة البسكويت بسرعة، وترشفين القهوة على مهل. شعرت بالغبطة أو الغيرة، لأنني نسيت كل هذا منذ أن انقضت سنتي الأولى. قررت في يوم أن أجرب ما تفعلينه، فشعرت بأنني أنتقم لنفسي من كل الرتابة في حياتي، من كل الكسل الذي أعانيه في الصباح وأنا قادم إلى العمل، أنتقم من العادات الجيدة التي تخلت عني بعد السنة الأولى". "لماذا لم تطلب مني، أو تشاركني. ثم حين كشفتك لماذا لم تنكر، ولماذا أصريت في اليوم التالي على التبجح مجددا أمام زملائنا!"، "لا يحق لك أن تهينيني بهذه الطريقة أمام نفسي، أن تذكريني بأنني كنت طموحا ثم تحولت إلى كتلة خاملة، هل تعلمين لماذا أنا أقدم موظف في هذه الشركة الناشئة! لأن كل الناجحين قرروا مغادرتها، قضوا زمنهم الافتراضي ثم بحثوا عن فرصة وظيفية أفضل. وبقيت أنا هنا على مكتبي، حتى عادة الاستحمام الصباحي بالماء البارد قد نسيتها. أنت تتحدثين عن ضحكات الصباح، والوقوف مع المدخنين خارج المبنى، وساعة موسيقى الجاز بعد الظهر. هل كنتُ حاضرا! أنا هناك على مكتبي القديم، أحفر الكرسي بمؤخرتي، وأدس رأسي في عمل أكرره منذ سنوات خمس"، "هل تظن أن هذا يدعو للشفقة! لو أنك كففت عن الفعل لكان الأمر مختلفا، لقد كنت تجعلني في وضع مهين كل يوم، حين يسألني الزملاء إن كنتَ قد استوليت على قهوتي مجددأ، فتضحك وتنظر إلي وتقول إنها مجرد قهوة".

قامت غاضبة من مكانها، "لم ينته حديثنا بعد، حافظ على نظافة مكانك حتى الصباح"، "لا، لا، أرجوك، أتوسل إليك، لابد أن نجد حلا ما". سمع صوت قدمها على الدرج يغيب من بعيد.

اختارت قميص نوم فاتن، وضمخت جسدها بالعطر، ونامت كطفلة في ليلة العيد. استيقظت في الصباح واغتسلت، وقفت تحت الماء الساخن لعشر دقائق، شعرت بأن عضلاتها رخوة، وأنها قادرة على التفكير في اللا شيء لساعات متواصلة.

التقت عددا من الموظفين عند المدخل، ألقت عليهم تحية صباحية ودودة. جلست على كرسيها منتصرة كأنها نالت ترقيتها للتو. فتحت الدرج... لم تجد مغلف القهوة ولا قطعة البسكويت! أحست بحرارة تعلو رقبتها، لقد وضعته هنا بالأمس قبل مغادرتها. ورأته يغادر قبلها حتى يذهبا سويا. وضعت كفيها على وجهها وأرخت رأسها للخلف، وأعادت ترتيب الأحداث... لا يوجد خطأ. توجهت نحو زميلتها التي تراجع بريدها الالكتروني، "إنه لم يأت، ومغلف القهوة ليس في مكانه". قالت وهي تنظر في الشاشة "لقد أخذه شخص آخر"، "هذا غير ممكن، إنه هو من يستولي على قهوتي كل صباح، كان يبتسم ويقول إنها مجرد قهوة"، التفتت إليها "هل عثرت يوما عليه وهو يفتح درجك أو يشرب قهوتك، إنه أجبن من أن يقترب من مكتب أحدنا"، "ما الذي تقولينه!". "هل صدقت هذه الكذبة، أنه من كان يأخذ قهوتك"، "من يكون؟"، "أي لعين من الموظفين غيره، لكن هو!! هذا محال". "لا أفهم، لقد كان يعترف بدم بارد"، "كان يتباهى بما لا يقدر على فعله. اذهبي الآن إلى الزاوية الأخرى حيث مكاتب الشباب، وسترين أنهم يعبثون بمكتبه وأدراجه. وإن أرادوا التسلية والدخول إلى مواقع خارج نطاق العمل استخدموا اسمه. والجميع يعرف ذلك". قامت من مكانها واتجهت نحو المقصف، كان هناك زميل آخر. "أريد أن أسألك سؤالا وأرجو أن تجبني بصراحة، هل كان هو من يستولي على قهوتي"، ضحك ساخرا. "كنتم تقولون بأنه هو!"، "لأنه من عليه أن يتحمل حماقاتنا.. إنه يفعل ذلك دائما. لو سأل أحد من تسبب في عطل التكييف فسيكون هو. من أغضب المدير، إنه هو. من تسبب في خسائر الشركة، إنه هو. هل تعلمين لماذا لا يقف معنا حين ندخن أمام المبنى! لأنه حين يقف يأتي الجميع ويأخذون سجائره حتى تنتهي العلبة، وبدلا من أن يوقفنا عند حدنا، توقف عن التدخين نهائيا في الصباح". "لماذا لم تخبروني بذلك؟!"، "أنت لم تسألي". عادت إلى مكتبها يتصببها العرق، أرخت جسدها على مكتبها.

في التاسعة صباحا دخلت امرأة متأنقة، واتجهت إلى زاوية الشباب وكأنها تعرف المكان. أشارت زميلتها، "انظري، إنها زوجته". قامت من مكانها، واقتربت تستمع الحديث. "أقسم لك أنه لم يبت عندي البارحة"، "أخبره أن حسابه عسير جدا". عادت وجلة إلى مكتبها، "ما الذي يجري؟!"، "في كل مرة يرتكب فيها خطأ يذهب للمبيت عند أحد أصدقائه. سيكون قد نسي أغراض البقالة لا أكثر، يخاف ولا يعود إلى البيت حتى اليوم التالي. تعثر عليه هنا، وتصنع فضيحة مدوية".

مرت الساعات المتبقية ثقيلة وبطيئة. مع مغيب الشمس كانت تقف أمام البناية، هرولت على الدرج نحو الطابق الخامس، وقفت على الحافة. فوجئت بأن المصعد قريب جدا. وهو ليس هناك. شعرت بصدمة عنيفة من الخلف، سقطت على ركبتها وسط المصعد. أحست بدوار وآلام حادة. سمعت صوت المصعد ينزل قليلا حتى عاد إلى مكانه السابق. بعد دقائق أطلّ عليها "ها أنت أيتها المجنونة"، "أرجوك، يجب أن اوضح لك أمرا". غاب وسمعت صوت أقدامه على الدرج، انطفأت الكهرباء، حل ظلام دامس، صرخت، وصرخت، أحست برطوبة المكان، العرق يتصبب، فتحت أزرار قميصها، ثم خلعته، حاولت تجفيف نفسها، بحثت عن المناديل، تذكرت أنها لم تترك له أية مناديل!

بعد ساعتين، أضيئت الأنوار، وتدفق الهواء البارد. أطل من فوق، كانت مجهدة وسابحة بعرقها. "أرجوك، لا داعي للانتقام، استمع إلي". "أنت من عليها أن تستمع الآن، وإلا سأغادر مجددا". صمتت، رمى إليها بقوارير ماء بارد. تبدو ملابسه مختلفة ونظيفة. "أخبريني كيف خططت لهذا الأمر؟". قالت بصوت تتسابق فيه الحروف "أنهى المقاول عمله منذ أسبوع، وكان مقررا أن نخرج سويا لكتابة التقرير النهائي. في هذا الأسبوع قمت بتعديلات على الكهرباء حتى أستطيع التحكم بالمصعد بشكل منفصل، وأقوم بتحريكه كيفما أشاء. جربت كل خطوة، وأعدتها حتى أتقنتها". "هل أنا الضحية الوحيدة"، "يجب أن تستمع إلي، أعلم أنك لست من أخذ قهوتي. لكن لماذا لم تخبرني البارحة، لماذا لم تنكر الأمر". "اي أحمق قال إنني لست من أخذها". "لا داعي لأن نستمر في هذه اللعبة، أخرجني وسأقوم بالتكفير عن خطئي". التفت وراءه وأحضر لوحة، رسم عليها سريعا، وبشكل أخرق تماما، قطة تتناثر منها الدماء، أنزل اللوحة. "هيا أطلقي خيالك اللعين".

غادر وهي تصرخ، خجلت أن تطلب منه المناديل، فكرت للحظة كيف تدبر أمره. قررت أن تسايره، نظرت في اللوحة، أحاطتها بكثير من الورود، لكنها كانت ذابلة وحزينة، لا تدري كيف حدث هذا. ثم رسمت شمسا فكانت غاضبة، ولا تدري أيضا كيف حدث هذا. كانت يداها ترتعشان. رسمت طفلة تأتي من بعيد بيدها سلة مليئة بالأعشاب الطبية. جعلتها في زاوية نظر القطة، فأصبحت القطة كأنها تستغيث.

بعد ساعة أطل من إطار باب المصعد. "خيال أخرق، ويد لا بأس بها". "لقد سألت جميع الزملاء، كلهم أكدوا لي دون استثناء أنك لست الفاعل"، بدى عليه الغضب "ولماذا لا أكون، ألأني ضعيف!". "لم أقل هذا"، "لكنهم قالوا". "لننظر إلى الأمر بشكل مختلف، لقد قاموا بالتنمر عليك، ثم عليّ أنا، ثم أوقعوا بيننا"، "سأقترح نظرة مختلفة، لقد فقدت قهوتك، وبدلا من أن تشتري قهوة بديلة قمت باحتجاز الشخص الخطأ. قد يكون الموظفون سيئين، هذه عادة البشر، لكني أتساءل ما هي العلة التي تعانين منها، ماذا لو أنني أخفيت هاتفك، هل كنت ستسلخينني أيتها المجنونة".

قام من مكانه، وقف ونظر إليها من أعلى "هنا حقيقة واحدة، وهي أنه لا يوجد عدل بين الاستيلاء على مغلف القهوة، والاحتجاز في مصعد بين الدور الرابع والخامس في بناية فارغة". رمى بلوحة جديدة، "هيا حاولي أن تحسني من خيالك، فأنت دون المتوسط". كانت اللوحة فارغة هذه المرة. "سأعود في الصباح، تهيئي للنوم جيدا". صرخت وهي تسمع وقع أقدامه تبتعد.

وضعت رجليها على الطرفين وصعدت ببطء حتى وقفت على إطار السقف المفتوح. يفصلها متران، انتبهت إلى وجود قطع حديد بارزة، من المؤكد أنه تمسك بها. حاولت الصعود عليها لكنها عجزت، كان فارق الطول بينهما حاسما في نجاحه وفشلها.

في التاسعة صباحا أطلّ عليها، كانت قد غفت قليلا حتى سمعت وقع أقدامه، نادته قبل أن يصل. رمى بسندويشة جبن، وماء بارد، وحافظة شاي، وكثير من علب المناديل. كأنّ السماء تمطر عليها بقذائف، تحاشتها حتى لا تصاب بأذى.

جلس على البساط وأرخى رأسه على إطار الباب "كان طفل الجيران يستولي على حاجياتي، وكانت أمي توبخني لضعفي. وحين واجهته ضربني، فوبختني أكثر. لقد تنقلت بين مدارس عدة، وفي كل يوم جديد، أقرر بان أكون شخصا مختلفا، لكنهم يكشفوني من اللحظة الأولى". نظر إليها "جئت بحماس مثلك، أنت بالفعل تذكرينني بنفسي. لكنهم استباحوا مكتبي، وطعامي، وكانوا يهزؤون بكل ما أفعله، وينسبون لي كل حماقة يرتكبونها. لم أستطع أن أواجههم. وبالتأكيد تعرفين السبب، فأنت لم تقدري على مواجهتي شهرا كاملا. أشعر بشلل في لساني وجسدي كلما أردت أن أنطق بكلمة، وبثقل على كتفي. أصارع نفسي، أشعر بقلق، فأقرر أن لا أفعل. حين سألتِ من أخذ قهوتك وأشاروا لي، شعرت بنشوة القوة. رأيت الضعف في عينيك. لم أكن خائفا منهم، وإنما متعطش لنظرة الاحترام والخوف مني. وللمرة الأولى أصبح في كل يوم شخصا مهابا ولعينا وقذرا في عيني موظفة جديدة. توجد نشوة في القذارة، نشوة يعرفها أولئك الذين أذاقوني البؤس لسنوات. كنت أنتظر كل صباح حتى تسألين، وأقول بلا مبالاة نعم.. إنها مجرد قهوة". "ألم تشفق علي!"، "الضعفاء لا يستحقون الشفقة. الحياة تؤلمنا لكن نحن من نختار الضعف".

قام من مكانه، "أين؟"، "إلى العمل"، "ألن تخرجني!"، "ليس الليلة"، "لكنك الآن تقسو عليّ"، "لو أخرجتك الليلة لن يكون للاحتجاز معنى. لقد فزعت في الليل وأنا أواجه المجهول، وأنا افكر أنني قد أموت هنا. ماذا لو حدث ما يعيقك عن المجيء، سيعثر علي الناس ميتا من الجوع". سمعت خطاه يبتعد ثم يتوقف، "بالمناسبة، قد لا أعود قريبا".

في اليوم التالي وفي التاسعة مساء سمعت وقع خطواته، ارتفع المصعد فجأة إلى الدور الخامس، كان واقفا هناك، قفزت مسرعة حتى لا يغير رأيه. سقطت على الأرض وبكت. "هيا، سنعود لاحقا لتنظيف المكان"، رأى اللوحة معلقة على الجدار، اللون الأزرق يغطيها بالكامل، ثم دائرة صفراء تشير في وسطها إلى دوامة تقود إلى محورها، وفي المحور تماما نقطة سوداء. ابتسم، أسندها حتى خرجا، صعدا السيارة، "والآن، هل نذهب إلى قسم الشرطة حتى ننهي أمر الدعوى المزدوجة". "أريد مكانا أغتسل فيه". "سآخذك إلى غرفتي في الفندق القريب"، "أفترض أنك لم تعد للبيت حتى الآن".

"يجب أن نعود في المساء لتنظيف المصعد، فغدا سنزور البناية مع زميل آخر". كانا يبتسمان بملابسهما الجديدة.


تعليقات