اللون الأسفر
مع شروق الشمس كان اللون الجديد يتسلل من الغابة المجاورة. كان أشد
سفورا من الشمس، وأكثر وضوحا من القمر، وأشد عمقا من زرقة السماء، لونا سافرا لاتخطئه
العين.
دخل المدينةَ في وضح النهار، وكلما امتزج بلون فيها، أنتج مزيجا جديدا
لم تره عين من قبل. وحين قرر أن يتسلل إلى البشر، تغيرت ألوانهم، وأصبحوا مرئيين
أكثر.
لم يكن اللون مفزعا بسفوره ولا بغموضه ولا بعمقه، وإنما لأن العين لم
تعرفه من قبل. خاف أهل المدينة أن يكون مرضا معديا، فعزلوا المسفرين. لكن اللون
كان يختار بنفسه، ينتقل بين جسم وآخر، فاكهة وأخرى، شجرة ونخلة، إنسان وقطة، لسبب
لا يعرفه أحد. فقررت المدينة أخيرا أن لا تعزلهم.
أشرقت شمس يوم آخر وقد أصاب اللونُ حاكمَ المدينة فأصبح مسفرا. كان
قويا ذا عزيمة، فخرج إلى الناس يمشى في السوق. رأوا وجهه أبهى من القمر في
اكتماله، فقام شباب المدينة بصبغ وجوههم باللون الأسفر، وقامت عارضات الأزياء
والفنانات بالأمر نفسه.
أصبح اللون الأسفر تقليعة العصر الجديد، يدل على المجتمع الراقي والمتحضر
في المدينة. فأصدر الحاكم مرسوما يقضي بضم اللون الأسفر للعلم الوطني.
كانت المدن المجاورة في حيرة من أمرها، فالمدينة التي في الشمال أصدرت
مرسوما بمصادرة أموال المسفرين، لأنه لم يصب في البداية إلا الفقراء. أما التي في
الجنوب فأصدرت مرسوما بعزلهم، لأنها لا تزال تعتقد بخطورته وعدواه العشوائي. أما
التي في الغرب والتي كانت في حالة حرب مع مدينتنا، فقررت إعدام المسفرين لأنهم
خونة.
أصبحت المدينة قوية، ازدهرت أسواقها وتجارتها، وصار جيشها كبيرا
ومنيعا، وأبدى الجنود استعدادا دائما للموت من أجل لونهم الجديد.
في صباح يوم تالي قرر اللون الأسفر أن ينسحب إلى الغابة، وأن يصعد
الجبل، ثم ينزل إلى الساحل ويغيب في البحر. استيقظت المدينة على فراغ في الوجوه
والألوان. أصبح العلم الوطني ناقصا، وملابس الجنود باهتة، ووجه الحاكم شفافا.
لم يجرؤ الحاكم على المشي في السوق، فقد اعتقد بأن سحرا ما أصابه
وأصاب مدينته. ولم تسعفه قوته في احتمال الفراغ، كما أسعفته سابقا في مواجهة
الجديد. أمر الكهنةَ بأن ينشروا التعاويذ، وأرسل الجنود ليبحثوا عن اللون الأسفر
ويعيدوه إلى المدينة، وأمر الكيميائيين بأن يبحثوا عن تركيبة جديدة لهذا اللون
الغامض. لكن الجهود كلها بائت بالفشل.
أصبح الناس يمشون في الشارع حزانى، والجنود يقفون كسالى فاقدي العزيمة.
لقد ضاع لونهم للأبد، فمن أجل أي شيء سيموتون في الجبهات، ومن أجل أي شيء سيقدم
التجار أموالهم!! حتى الشباب والفنانون والفنانات عادوا لتقليعات ما قبل العصر
الجديد، ما قبل عصر اللون الأسفر، عسى أن يجدوا لهم سبيلا للمرح.
قالوا إن مدينة الغرب قد سرقت اللون، وقال آخرون إن اللون كله لم يكن
سوى خدعة.
خرج الحاكم في صباح أحد الأيام بوجهه الشفاف، وقال متكئا على عصاه،
كازّا على أسنانه، في خطبة عصماء بأنه رأى في منامه أن اللون سيعود، فإذا عاد ازدهرت
المدينة، وانتعشت تجارتها وفنونها. وحتى ذلك الحين يجب أن يقوم الجيش بحماية
المدينة بحماس، وأن يقوم التجار بالتبرع من أجل ازدهارها بسخاء.
قالت المدينة بصوت واحد يحدوها الأمل، وتسري النشوة في عروقها: آمين.
تعليقات
إرسال تعليق