الحضرة

 


الحضرة

أخفقت أسابيع عدة في الاستيقاظ فجر يوم الجمعة، وفي تلك الليلة طرقت حمامة صفراء نافذتي فاستيقظت. تسللتُ من غرفتي إلى الشارع، مشيت نصف ساعة باتجاه الشرق نحو البحر. القمر أحمرٌ وتحجب نصفه الغيوم، والحمامة تتبعني أحيانا وتسبقني أخرى، يسليني رفيفها ويذهب عني الوحشة. عبرتُ الحي، ثم مررت بأرض ممتدة مليئة بالنخل، ثم أرض جرداء إلا من شجيرات برية. رأيت كلابا ضالة، كنت أرى بعضها تتجول في الحي ليلا.

شعرت برطوبة الأرض،  ثم رأيت بقعا طينية. سمعت صوت الأمواج من بعيد مع أذان الفجر. اقتربت من الشاطئ، وكما قال لي ابن جارنا، عند نخلة رأسها مثل شعر ساحرة عجوز ستكون الحضرة.

كان الماء جزرا، فتقدمت في الأرض الطينية. رأيت طرف سياج الحضرة، وعلى بعد مائة متر من الناحية الأخرى يبدأ الطرف الثاني، ثم يمتد الطرفان كضلعي مثلث قرابة مئتي متر حتى يلتقيان كقاب قوسين. ثم يتسعان ليشكلا دائرة تشبه حبة الفراولة. حين كبرت أصبحت لا أنفك أفكر في الحضرة كرحم امرأة، تلجأ الأسماك إليها كي تعود إلى ما قبل الحياة.

في المدّ تجلب الأمواج الأسماك وسرطانات البحر إلى الشاطئ، وحين يجزر الماء وينخفض، تحجزها سياج الحضرة حتى تدخلها في الرحم، أو قلب الحضرة. ثم يأتي الصياد ليلتقطها بشباكه.

قال لي ابن جارنا إن الحضرة مليئة بأسماك الفسكر، "سترى لونا أصفر بهيا في خديها، وزعنفتها الصدرية، وذيلها". ثنيت أطراف سروالي القطني إلى ركبتي، وتقدمت. كنت طفلا قصيرا لم يتجاوز العاشرة. مشيت بمحاذاة السياج من الخارج. الحضرة مليئة بسمك الفسكر كما أخبرني، تبحث عن منفذ للخروج لكنها لا تستدل على الاتجاه المعاكس بسبب انخفاض الماء. وقفت على ذيولها، ورفعت رأسها وحركت زعانفها مبتهجة بقدومي. رأيت ثلاثة سرطانات كبيرة تتجول ببطء، اقتربت من السياج فظننتها تتودد إلي، حين التفت رأيت قرابة عشرين منهم، التفوا حولي من خارج الحضرة وحاصروني تجاه السياج، رسموا نصف دائرة، ثم تقدموا خطوة تلو أخرى ببطء كأفراد عصابة. أصابني الذعر وأنا أراهم يلوحون بمقصاتهم البرتقالية. سمعت صوتا ينادي "اقفز من فوقهم".

كان جارنا في الشارع المجاور، عجوز سمين ذو لحية بيضاء كثيفة، وخدين ممتلئين، وأذن شاحمة. "أعرفك، أنت تسكن في الشارع المجاور". قطّب حاجبيه، وصك أسنانه كأنه يقضم شيئا فبدت صفراء منهكة، "أنتم الصغار تسرقون أسماكي". حملني عن الأرض مثل حقيبة، صرت أترنح في يده وهو يمضي بي نحو سيارته. "سألقنك درسا حتى تتعلم أن السرقة عيب وحرام". توسلت إليه وكررت بأني لست سارقا، وبكيت ونزل مخاطي على فمي وأنا أقول إنني جئت فقط لأرى الأسماك. قذفني في الأرض الطينية. ثم نظر في عيني. تبدلت قسمات وجهه حين رآني منهكا من البكاء وملطخا في الطين. "هل تقسم أنك لم تأت هنا قبل هذا اليوم؟"، أقسمت له وأنا أمسح دموعي ومخاطي. "اتبعني". مشينا نحو سيارته، زرقاء عتيقة ذات حوض طويل مليء بصناديق الصيد وحافظات السمك. "أنا لا أحب إيذاء الأطفال، لكنكم تثيرون غضبي. إن كنت جئت لترى الأسماك فلا بأس، لكن لا تحضر أحدا من أولئك الشياطين".

                                                            *** 

يعيش العجوز ذو اللحية البيضاء وحيدا في بيت صغير ورثه قديما عن والديه. عنده خمسة خرفان، يخرج بهما كل يوم بعد صلاة العصر، في مشهد مثير في إحدى أحياء هذه المدينة الحديثة، يعبر الشوارع ويتجه بهم نحو الأراضي الممتدة شرقا، ثم يعود بهم في المساء. يشتري منه الجيران واحدة أو اثنتان كل شهر، فيعوضها بأخرى من السوق.

سيّج حضرةً في البحر، وأصبح يتفقدها كل صباح. يقوّم السياج ويغرز العصي ويشدّ شباكه. يأخذ سمكة أو اثنتين، ثم يلتقط البقية بشباكه ويعيدها إلى البحر كي تمضي في سبيلها.

يودّه الجميع، وقد سمعت أبي يذكره بالخير دائما. يتجرأ الأطفال على حضرته، يتسللون خفية مع طلوع الفجر، بيدهم عصي سننوها كالرماح، ليحدثوا مجزرة في أسماكه. لم يظفر بهم ولا مرة واحدة، يجري خلفهم بثقل، يتعرف عليهم، يشتمهم بأسمائهم، لكنه لم يشكي أحدا منهم إلى أهله أبدا.

يتحاشى مواجهة الناس والسلام عليهم، وإن حدث ذلك فيشدّ على يد مصافحه، وينظر برهة في عينيه بودّ، ثم يتوه قليلا في مكان ما، ويولي سريعا.

ليس له أقارب ولا أصدقاء، وحديثه مقتضب مع الجيران وجماعة المسجد. لا يحضر المجالس ولم يدخل بيته أحد. تقف سيارته الزرقاء العتيقة ذات الحوض الطويل أمام منزله، نراه أحيانا عائدا مع خرفانه من السوق، وأحيانا عائدا من الحضرة قبيل الظهر.

                                                             ***  

"دعنا نرى إن كنت محظوظا هذا اليوم". دخلنا الحضرة، وبيدينا رمحين، "ضع الرمح في التربة قبل أن تطأها بقدمك، اللُّخم يختبئ تحت الرمال، وأنت لا تريد أن تجرب لسعة ذيله السامة". تجولت بين أسماك الفسكر، تتراقص حولي واقفة على ذيولها، ترسل قبلاتها وهي تخرج الفقاقيع من فمها. لا تزال السرطانات الثلاثة تتجول بجانب السياج، وعصابتهم تقف في الناحية الأخرى تبحث عن طريقة لتحريرهم.

اقترب العجوز من قلب الحضرة، "هاه، تعال وانظر". كانت سمكة مطرقة صغيرة تدور غاضبة. "من النادر أن ترى المطرقة هنا"، التقطها بشبكته، ورفعها من الماء، قربت يدي لأتحسس الفكّين، فأبرزت لي أسنانها غاضبة، خُيّل لي أنها زفرت وقالت شيئا، "أوه، كم أنت بذيئة". "هل قالت شيئا!"، لم يجبني.

أطلق المطرقة خارج السياج، توقفتْ تنظر إلينا، ثم ولّت. حمل كومة من أسماك الفسكر، والسرطانات الثلاثة، ولخمة صغيرة كانت مختبئة في الطرف. أفرغ الحضرة من كل شيء. واكتفى بسمكة فسكر واحدة. عدنا إلى الشاطئ، أخرج موقده، نظف السمكة ورشها بالملح والفلفل الأسود وبدأ بشيها. "هل تأكل السمك في الصباح؟"، "فقط في الصباح".

كانت طازجة ولذيذة، تختلف عن تلك التي يشتريها والدي من السوق. أخرج إبريقا صغيرا، وصنع له كوبَ شاي ثخين. ثم دخن سيجارة واحدة.

"هل تعرف السباحة"، "علمني والدي كيف أطفو على الماء، وكيف أعوم". "هل تود رؤية المرجان؟".

عدنا إلى البحر، مشينا حتى وصل الماء إلى عنقي، أشار تجاه منارة مهجورة، "ستسبح بذاك الاتجاه، ثم ستغوص عموديا في عمق البحر حين أخبرك". سبحت ببطء وأنا طاف على الماء حتى لا أستنفذ جهدي، بعد دقائق صرخ "الآن، خذ نفسا عميقا".

                                                            *** 

فتحت يعني وأنا أشعر بدوار وغثيان، رأيت أمي تبكي من الفرح، وأنا ممدد على سرير أبيض، وفي السقف أنوار بيضاء، وعن يميني ممرضة تبتسم وتهنئني بالعودة.

اتصلت إدارة المستشفى بأبي بعد أن حملني الرجل العجوز إليها، كنت مغمى عليّ بعد أن شربت قدرا هائلا من ماء البحر. قال الرجل العجوز إنه عثر عليّ في الصباح على الشاطئ على هذه الحال.

رأيت أمي وهي تتحدث عن ابنة جارنا الجميلة المراهقة بكلام معيب، "تخرج مع شاب لا نعرفه، لقد رأيتها ذاك الصباح وهو يقلها من طرف الشارع عند الأرض الخالية، مضت معه ولم تعد إلا بعد ساعة بشعر منفوش". كنت قد سمعت هذا الحديث منها قبل أشهر تحدث به جارتنا الأخرى. أمي تبتسم لي وتبكي فرحا، لكنني أراها في الوقت نفسه تنهش في عرض الفتاة المسكينة.

دخل أبي فرحا، رأيته يحضنني، وفي الوقت نفسه رأيته يضرب أمي ويلعنها، يمسكها من شعرها ويجرها من السرير، ويلعن أباها وأمها وأخوتها، ويصف عضوها بالقبح والخراء، كما فعل قبل أسبوعين حين عاد ثملا في الصباح.

كانت الممرضة تبتسم لي وتشتم المرضى. "روائحهم تشبه قطط الشوارع"، "هل يظن ابن القحبة أنني سأستلطف جيفة مثله". يبدو لي كل فرد في الغرفة فردين في الوقت نفسه.

                                                            *** 

كاد نفسي أن ينقطع، وأنا أقاوم كثافة البحر وأغوص عاموديا. رأيت لونا أحمر من وراء الغبش، ثم حين اقتربت صار الماء صافيا. كدت أختنق. شعرت بدوار، ثم فجأة تلاشى كل شيء وأصبحت أتنفس كأني خارج الماء.

وقفت على قدمي ومشيت بخفة، قفزت وعمت كالأسماك. رأيت المطرقة آتية نحوي غاضبة، "تملك جرأة كبيرة حتى تأتي بنفسك إلى هنا"، لقد حررنا المطرقة من الحضرة لكنها لا تتذكر سوى الأسر. "بشرٌ معاتيه"، وهي أيضا لا تزال غاضبة.

أخذتني نحو كهف نمت عليه الأعشاب الخضراء وتقف على بواباته فرسان البحر بألوان تتدرج من الأزرق إلى الأحمر الزاهي. في الكهف سلحفاة معمرة كبيرة، يدعونها الملكة. خرجت ونظرت إلي ببطء، ثم أمرت المطرقة أن يأخذني إلى غابة المرجان. مضى المطرقة بغضب "بشر أغبياء".

تتمدد الشعب الحمراء كأنها كفوف ثخينة لها أصابع مستديرة، خُيّل لي أن الأرض تمد يدها للسلام والتحية. لو قلت إن (لون المرجان أحمر) سأكون غبيا، فلون المرجان هو (لون المرجان)، بهي زاهي يأسر العين، ولا تشبع منه. لا توجد قطعة مرجان مثل الأخرى، لكل واحدة لونها وشكلها. تتموج في البحر ببطء وخفة. تأملتها طويلا، تركني المطرقة وغاب بعيدا. شعرت بخدر ثم وضعت رأسي بينها ونمت.

                                                            ***  

في ضحى يوم الجمعة كان جالسا قرب سيارته الزرقاء العتيقة عند الشاطئ يشوي سمكته، وسيجارته في فمه. رآني فلم يبد استغرابا. اقتربت وجلست بجانبه. سألته لماذا لم يخبرهم الحقيقة. "كانوا سيتهمونني بمحاولة إغراقك". أخذ رشفة من سيجارته، ثم قال "لماذا لم تخبرهم أنت بالحقيقة!!".

"حين كنت صغيرا في مثل عمرك قادني خالي إلى المنارة، بعد أن أيقظتني حمامة صفراء في منتصف الليل. غطسنا سويا وعمنا باتجاه مدينة المرجان. تركني هناك وصعد للأعلى. أمرت السلحفاة الملكة أسماكَ القرش الصغيرة أن تمضي بي إلى المدينة، وبين المرجان وفي بهجة ألوانه أصابني الدوار ونمت. استيقظت على الشاطئ أزفر الماء من صدري. وحين رأيت وجه خالي بدى لي كم هو شيطان، رأيته وهو يسرق حلي أمي وجدتي كما فعل قبل سنة من ذاك اليوم".

استوت السمكة من الناحيتين، رفعها من النار، وقطع لي وصلة من جانب الذيل، "هذه هي الأفضل". كانت سمكة كنعد بنصف طولي تقريبا.

"حين رأيتك كانت الحمامة الصفراء تطير على ارتفاع قريب منك، راقبتك من بعيد فرأيت السمك يقف على ذيوله فرحا، عدا سمكة المطرقة الغاضبة وعصابة السرطانات". قهقه ضاحكا. "لقد وبختك حتى لا تظن أنني أستدرجك لأمر ما". أكل من السمكة، ثم أتبع وهو يقضم لحمها الطري بشهية، "حين يرتكب الإنسان خطأ ننسى مع الأيام كم كان قاس ولئيم ومتوحش. حين ننام في كل ليلة ننسى جزءا من قبح الناس. والواقع أنهم يفعلون ذلك في كل لحظة طالما أنهم لم يعتذروا ولم يأسفوا.

لقد سرق خالي حُليّ أمي وجدتي مرة واحدة، وقد نسيا خطيئته. لقد رأيتُه، وكنت شاهدا على دموع أمي وجدتي وحسرتهما. سامحاه لأنه ابنهما في آخر الأمر، لكنه لم يأسف ولم يعتذر. مضت الأيام وهي تحمل معها نعمة النسيان. لكن الواقع يا بني أنه في كل لحظة كان هو ذلك الشخص الذي سرق الحلي وكسر قلب أجمل امرأتين في حياتي".

"لكني لا أريد ذلك"، "ومن قال إنني أريد. أنا لا أستطيع النظر في عين أحد، لأنني كلما فعلت ذلك رأيت قباحته وعفنه. لقد اختاروك كما اختاروني"، "من؟"، "الحياة.. لقد اختارتك الحياة لتعرف".

                                                            ***  

بقيت قرابة أسبوعا في حجرتي لا أطيق الخروج ولا النظر في عين أحد. لا أريد أمي التي تهتك عرض الفتاة الجميلة التي أفكر فيها كل مساء حين آوي إلى فراشي، وأبي الذي يصف أمي بالعاهرة والقبيحة ثم يغتصبها وهي تبكي.

في صباح الجمعة التالية، لم يكن في البيت سواي وأخوتي الصغار وأمي وأبي. تسللت وأقفلت باب حجرتهما من الخارج وهما نائمان. صببت الوقود الذي يحتفظ به أبي في المرآب على بابهما وفي جميع الحجرات. ثم أشعلت النار. أخرجت أخوتي سريعا إلى الشارع، وجلست أنظر إلى النار تلتهم بيتنا. كانا يستغيثان عبر النافذة. ماتا اختناقا قبل أن يتمكن أحد من نجدتهما، ولم تطرف لي عين.

أخذوني إلى المستشفى، أنكرت في البداية، ثم قصصت عليهم القصة من حين طرقت الحمامة الصفراء نافذتي. أحضروا الرجل العجوز فأنكر كل شيء. قدموا تقريرا بأنني مصاب بفصام الشخصية وضلالات ووساوس وأشياء من هذا القبيل. أعطوني عقاقير كثيرة، خرجت تحت وصاية عمتي بعد سنة من العلاج.

أبلغ من العمر اليوم أربعين سنة، أعيش مع عمتي العجوز في غرفة في حوش بيتها، أبقى وحدي في الغرفة ويرسلون لي الطعام، تقوم خادمتها بغسل ثيابي والاهتمام بشأني دون أن نلتقي، لقد التزمنا بنظام دقيق حيث لا أرى أحدا منهم ولا يراني.

بنيت حوضا في غرفتي بطول ثلاثة أمتار. تعيش فيها أسماك الفسكر وترسل لي قبلاتها كل اليوم، ولا تعلم أنني سجانها، لأنها قصيرة الذاكرة. كم هو ممتع أن تعيش مع كائنات لا ذاكرة لها. أما أنا فأعيش مع ذاكرتي الملعونة، أغض طرفي عن كل عين بشرية، حتى لا أرى عفنها. أما عفني فأنا قادر على العيش معه، كما يقدر المرء على رؤية وغسل قذارته.


تعليقات

  1. يُقال أنك عندما تطلق الاسئلة حتمًا تأتيك الاجابة .،
    كان سؤالي تُرى متى ستكون القصة القادمة؟
    ووصلتني فاليوم التالي على البريد 💘
    ..
    جرب واسأل ما تريد

    هناء

    ردحذف

إرسال تعليق