وصية حائرة



وصية حائرة


عندي ست وعشرون صورة لمقاه في العراق وبيروت والمغرب واسطنبول. ومئات الصور في هاتفي الجوال لأخرى في نيويورك وبوسطن وباريس وإيطاليا. في الليل أضع رأسي على وسادتي وأحلم أنني أجلس على كرسي خشبي عتيق، أمامي فنجان القهوة، وأن رجلا طلب أن يشاركني الطاولة. وأننا جلسنا، نتحدث عن كل شيء لا معنى له، ثم خلقنا حديثا وضحكا من كل هذا اللاشيء.

في ليلة أرى أنني أخبرته باسمي، وفي أخرى أرى أننا اتفقنا أن لا نخبر بعضنا. أراه في ليلة سعيدا وفي أخرى مهموما. يستنزف هذا المشهد كل خيالي، دخولي المقهى، وجلوسي على الطاولة، ورشفتي الأولى وقدومه. ليس له شكلا واحدا، ولا اسما ولا عرقا ولا هنداما. إن الأمر بحسب مزاجي ذلك اليوم، فإن آويت إلى فراشي مقهورة، أكون مقهورة على الطاولة، وإن آويت فرحة أكون فرحة على الطاولة.

لقد استغرقني الأمر ثلاثة عقود من حياتي، حتى قررت أن أسافر للبحث عن المقهى المنشود. ست ساعات بالطائرة، وفندق متوسط التكلفة، وموسم ليس على أجندة السيّاح. تحممت وضمخت جسدي بالعطر ولبست هندامي. هندام امرأة ثلاثينية جاءت لعمل ما، نصف مشغولة، نصف سعيدة، لا تبحث عن آخر. لا ترى من حولها، مشغولة بمساحتها. هذا قناعي الذي ارتديته قبل دخولي.

نور الشمس يتسلل من زجاج قديم مخدّش، تعاني أشعتها في العبور وتتكسر استقامتها. نصف الطاولات مشغولة بكبار السن، تبدو عليهم النظافة ونصف السعادة. وآثار كدر الحياة وكدها. العاملون في المقهى لطفاء وسعيدون. يوجد بعض الرجال العابرين، لا أحد مثلي، لا زوار لهذا الحي ولا سيّاح.

لم يصبني شيء بالإحباط قدر كوني غير مرئية، فحين قررت أن أكون ضمن دائرتي الخاصة تمتعوا باحترام مبالغ كي يبقوني فيها. شعرت بأنني غبية، وأنهم أغبياء مثلي.

وصلت في اليوم التالي قبيل الظهر، نزعت سترتي ووضعتها على الكرسي، ذهبت لأحضر قهوتي، تقف خلف طاولة التحضير امرأة سمراء بدينة تبدو في نهاية العشرين، ذات وجه صغير مستدير، عيناها دائريتان، وكذلك فمها، كل شيء فيها على شكل دائرة. "تبدين غريبة!"، "نعم، جئت لأسبوع عمل"، "لا يبدو أنك أحسنت اختيار الناحية في هذه المدينة"، قالت وهي تبتسم وتشير بعينيها إلى العجائز في المكان، لكن أمرا ما في ابتسامتها قال إنها لاتصدق القناع الذي ألبسه.

 "تأسست شركة الكهرباء في هذا الحي قبل خمسين عاما، قدم المهاجرون من مدن مختلفة، عملوا بكد حتى سنّ التقاعد، كان أفضل ما حصلوا عليه هو امتياز السكن"، قالت وهي تمسح الأكواب وتضعها فوق آلة الاسبريسو "إنهم لطفاء، ويحبون قهوتي". "هل تملكين هذا المكان؟!"، "أنا شريكة بحصة لا بأس بها". تبدو تواقة للثرثرة والتعريف بالمكان للسائحين القلاقل الذين يمرون خطأ بالناحية الجنوبية من المدينة. "اسبريسو مثل البارحة؟"، "نعم من فضلك".

دخل رجل أربعيني، متوسط في كل شيء، القامة والوزن، والوسامة، واهتمامه بالهندام وتشذيب ذقنه وشاربه. مصيبته أنه يبدو من بلدتي، وأنه عبر ست ساعات مثلي، وأنه قد يعرفني.

طلب قهوته، والتفت آخذا نظرة بانورامية على المكان، ثم رآني. أصبحت مرئية في عالمه، توقفت عينه عليّ بضع ثواني، تجاهلته وأنا أشعر بخيبة أمل. أعرف رجال بلدي، إنهم مملون جدا. لقد قضيت ثلاثة عقود أنظر في الصور، وحين تجرأت على السفر، أصبحت مرئية لرجل من بلدي! كان شعورا بالخيبة وسخرية الحياة والتعاسة! أخذ قهوته وجلس في الطاولة المجاروة لي، عرفت أنه يخطط للحديث معي، قمت وارتديت سترتي  وهممت بالخروج. لكنه أدركني وسألني إن كنت من بلدته. وطلب أن يشاركني الجلوس لدقائق. كان مرتبكا، ولم ينتظر حتى أقبل عرضه، سحب الكرسي وجلس.

"أنا.. أنا.. أنا هنا من أسبوع، أواجه بعض المشاكل"، أخرج ورقة من سترته، وأعطاني إياها بيديه المرتعشتين، "إن حصل لي مكروه فستجدين عنوان زوجتي"، قام من مكانه وأسقط كرسيه الخشبي، التفت وهو يقول "أريد أن أتحرر من ذنبي إن غادرت الحياة"، اتجه صوب الباب، خرج ينظر يمينا ويسارا. سمعت طلقة رصاص، تتبعها أخرى. سقط على الأرض، صرخ الجميع. وسقطت الورقة من يدي.

كنت واجمة مكاني مثل البلهاء، أخفض العجوزان على الطاولة الأخرى رأسيهما، المرأة السمراء من خلف آلة الاسبريسو تصرخ "إلى الأرض". رأيت الناس تجري في الشارع متعاكسة وعشوائية من خلف الزجاج المخدّش. وأمام الباب جثة الرجل مطروحة على وجهها.

جاءت المرأة السمراء، تلقفت الورقة من على الأرض، وجرتني إلى خلف طاولة التحضير. نادت على العجوزين، فجاؤو مخفضي رؤوسهم.

فتحتْ الورقة وقرأتها، قالت "يا للسخافة"، ثم التفتت إلي هامسة "ستأتي الشرطة بعد قليل، إياك أن تخبريهم بأنه تحدث إليك، أو أنه أعطاك الورقة، ستتورطين بتحقيق أنت في غنى عنه". التفتت إلى العجوزين وتدبرت أمرهما بكلام لم أسمعه.

                                                                    ***

عبر الرجل ست ساعات بالطائرة، حتى يجلس إلى طاولة قمار. لكنه لبؤسه وغبائه اختار طاولة تعج بعصابة تدير نصف المدينة. خسر كل ما يملكه في الليلة الأولى، وفي الليلة التالية خرج مدينا بنصف مليون دولار. أخذوا أوراقه الثبوتية، وأمهلوه بضعة أيام. "كل ما تملكه العصابة هي سمعتها ووحشيتها، وهذا ما تحافظ عليه دائما". هذا ما قلته لي المرأة السمراء. ثم أتبعت "لا يحدث هذا كثيرا، لكنه يحدث. وليس من مصلحة أحد أن يكون اسمه في محضر الشرطة".

                                        ***

سمعنا صوت صفارات الشرطة والإسعاف، أخرجونا برفق من المكان، رأيت شريطا بلاستيكيا أصفر يحيط به وهو ممددٌ على الأرض، والدم يصل إلى طرف الرصيف. قلنا إننا لا نعرفه. أجلسونا لنصف ساعة في سيارة الإسعاف، أعطوني حبوبا مهدئة، وكنت لا أزال واجمة.

"تعالي عندي الليلة، أعيش من طفلي الصغيرين. لست مرتاحة لبقائك وحدك"، كنت مطيعة، أو مشدوهة، وافقت لأنني بالفعل لا أريد أن أكون وحيدة هذا المساء.

تقطن مع طفليها الصغيرين، ويعيش زوجها في مدينة أخرى. وبسبب جدول وظائفهما المزدحم فإنهما بالكاد يلتقيان مرة كل أسبوعين أو ثلاثة. شقة صغيرة من صالة وغرفة نوم واحدة، وزاوية يمكن تسميتها بالمطبخ. في البلكونة الصغيرة توجد أصايص لنباتات نمت بشكل عشوائي، "بالكاد أتذكر سقايتها"، وفي الداخل أصايص فارغة لنباتات يبست من الإهمال. ألعاب الطفلين متناثرة في كل مكان، وسلال للملابس المتسخة، وأخرى للنظيفة تنتظر دورها في الكي. كل الصحون والأكواب والكؤوس والملاعق متراكمة بجانب المغسلة، تغسل وتستخدم ويعاد غسلها على الفور. يبدو المكان على وشك الانهيار لولا الانضباط الذي تبديه المرأة.

وضعت طراحة لي بجانبهم، كنت لا أزال مذهولة، فلم أر في حياتي شخصا يُضرب فكيف بي أراه يُردى قتيلا بعد أن تحدّث إليّ مباشرة! لم يخطر ببالي أن أسألها عن الورقة، حتى جلست أمامي وفتحتْها وقرأتْ.

"زوجتي العزيزة..

لم أذق طعم النوم منذ البارحة، لا أدري إن كنت سأنجو من الموت هذه المرة أم لا، لقد تورطت يا حبيبتي مع عصابة قذرة. أريد أن أبوح لك بما أخفيته عنك كل السنوات سابقة.

إن ما تجهلينه هو أنني أضعت أموالك في القمار مرات عدة، بينما كنت أخبرك في كل مرة أنني تعرضت للسرقة أو خسارة تجارية. لقد كانت طاولة القمار اللعينة هي السبب وراء بيع شقتك وكذلك أسهمك في شركة الإسمنت الحكومية. لقد أصبحتِ مفلسةً بسببي يا حبيبتي.

صدقيني، كنت أرغب بأن أعوض كل هذه الخسارة، لكنني فشلت كما أفعل دائما. أرجو أن تسامحيني. أنا أحبك من كل قلبي، ولطالما أحببتك، لقد كنت دائما كريمة وطيبة معي ومع أمي المسكينة.

محبك"

      نام الطفلان سعيدان بوجود أمهما إلى جانبهما. كانت تستيقظ كل ساعة، مرة من أجلهما، وأخرى من أجل الحمام، وأخرى تجلس وتنظر حولها ثم تعود للنوم مرة أخرى. أما أنا فلم أذق طعم النوم، كان المشهد يعاد في عقلي مئات المرات، وأفكر في سخافة القدر التي جاءت بي إلى هنا.

عَبَرَ الضوءُ القماشَ البالي الذي يحل محل الستارة، انتبهت إلى أن كل شيء نظيف في الغرفة. قمت من مكاني إلى الصالة. سمعت المرأة السمراء توقظ طفليها، ذهبتْ بهما إلى الحمام، أحضرتْ لهما علبتي عصير، وبعض الخبز والمربى وزبدة الفول السوداني. "سنفطر سويا في المقهى"، "أريد الذهاب إلى الفندق حتى أستحم وأبدل ملابسي"، "حسن، سنذهب سويا".

جاءت فتاة لتعتني بالطفلين، خرجنا من البناية، انتبهت إلى أننا كنا في حي متواضع، وأننا قطعنا مسافة طويلة حتى وصلنا إلى هنا. "ماذا تنوين أن تفعلي بالوصية؟"، كان سؤالا لا معنى له في البداية، أجبت بتلقائية "سأوصلها إلى زوجته"، وقفتْ، فتقدمتُ عليها بخطوتين، ثم توقفتُ "حقا! هل فكرت لماذا لم يقم هذا الجبان بمواجهة زوجته قبل موته؟! هذا النوع من الأشخاص يثيرون حنقي، إنهم يرحلون ويتركون واجب الشجاعة على عاتق غيرهم".

سكتُ، لم أفكر في الأمر بهذه الطريقة، إن الأمر طبيعي، نحن نرحل عن الحياة ثم نفضي ببعض مشاعرنا في الوصية.

"إذا كان الشخص يعتقد أمرا ما، أو فعل حماقة ما، ثم قرر أن يعترف، فما هي فائدة الاعتراف بعد الموت، بعد أن يرحل.. الاعتراف هو وضع العين في العين". "أنت تضخمين الموضوع""، "حقا!"، "ماذا لو أنه أراد أن يطلعها على الحقيقة بدل أن يبقيها مخدوعة!"، "وهل يوجد في الحياة سوى الخداع! يخبرني زوجي أنه مخلص لي، وحين يعود يخبرني بقصص وحكايات له في عمله ومع أصدقائه، اتعتقدين أنه صادق أم أنني قررت أن يكون صادقا! نحن نقرر يا عزيزتي أن نخلق عالمنا، وكل اعتراف لا يمكننا العيش بعده لا قيمة له".

وصلنا الفندق، وصعدنا إلى الغرفة، اغتسلت، ولبست ثيابا نظيفة، "لا أشعر بالراحة بوجودك وحيدة هنا، للعصابة عيون في كل مكان، ولا يبعد أن يتساءلوا عن علاقتك به بعد أن كنت في المقهى لحظة قتله"، أخذت حقيبتي الصغيرة، ومضيت معها إلى المقهى.

لم يبد أن شيئا حدث البارحة، الرصيف نظيف، والعاملون في الداخلون يتهيأون لفتح المكان. ذهبت السمراء إلى آلتها، أدارتها ونظفت الأدوات، أحضرت لي على الطاولة كوب اسبريسو وخبزا فرنسيا طازجا وقليلا من المربى.

قمت إلى طاولة التحضير ووقفت أمامها، "هل تعتقدين أنه من الأفضل أن أنسى أمر الرسالة؟"، "لو كان صادقا لأخبرها في حياتها" بدت الحيرة على وجهي، وشعرتُ بأنها تشفق علي.

"حسن، لننظر في الأمر قليلا يا عزيزتي. إنه رجل تزوج من امرأة تملك المال، وبدلا من أن يحافظ عليه قام بالمقامرة به، وخسر في مرات عديدة. من الأرجح أنها ليست المرة الأولى التي يزور فيها المدينة، وأنه جاء إلى الجانب الجنوبي كي يختبئ منهم. ربما ليست هي المرة الأولى التي يتورط فيها مع أناس قذرين، وربما ليست المرة الأولى التي يكتب فيها رسالة اعتراف حتى يعثروا عليها في ثيابه إن أردي قتيلا. لكنه لم يجرؤ في مرة من المرات أن يصارحها".

قامت من خلف الطاولة وأشارت إلى أحد العاملين كي يحل محلها، ثم جلست أمامي إلى طاولتي حيث لا يزال الخبز والمربى على حالهما. "فكري بزوجته، التي تعيش في وهم إخلاصه لها، وأن أموالها قد ضاعت بسبب تجارته الخاسرة وتعرضه للسرقة، وأمه المسكينة التي ربما تعيش على إحسان زوجته إليها. إن ما يريده هذا الرجل هو اغتيال ذاكرتها وتعريضها للصدمة دون أن يواجه هو ذلك".

قامت وقد رأت عجوزين وابنهما يدخلون المحل، وسمعنا قرع الجرس فوق الباب "إنه يريد الحصول على كل شيء، حياة قذرة خفية، وامرأة صالحة، وتطهر بعد الموت. أتوسل إليك ألا تمنحيه هذا الامتياز".

تولت السفارة أمر الجثة، وطلبت من أهله أن يحضروا بعد يومين من الحادثة، بعيدا عن الإعلام حتى لا يثير ذلك العصابة الدائنة. أتاحت السفارة للمواطنين أن يحضروا لعزاء أرملته وأمه. كان الموظفون لبقين ويظهرون الحزن بشكل رسمي ومحترم. هيبة الصمت والنظر إلى الأرض تعمّ صالة الاستقبال. السفير بجانب أمه عجوز وأرملته الثلاثينية. رأيت وجهها منهك من السفر وعينيها غائرة من البكاء. جاء بعض المواطنين كي يقدموا العزاء أيضا، جلسنا على المقاعد وقدموا لنا الشاي والماء والبارد.

كفّ أمه السبعينية كيد طفلة نحيلة، تجاعيد وجهها مثل متاهة حقيقية. فكرتُ في محاولات الأرملة أن تقنعها بعدم السفر، وعنادها رغم ذلك. كانت الأرملة تمسك بيدها وتسألها كل بضعة دقائق إن كانت ترغب بالماء أو الذهاب إلى الحمام أو تناول الدواء.

تبدو الأرملة صامدة، لكنها بعد نصف ساعة انفجرت في بكاء متصل. ذهبتُ إلى الحمام، نظرت في وجهي، فرأيت إنهاك اليومين السابقين. أخرجت الرسالة وأعدت قراءتها، لم أفهم معنى (محبك)، ربما كانت كلمته الصادقة الوحيدة هي (أمي المسكينة). فكرت أن أعطي الرسالة إلى السفير وأدعه يتولى مهمة الخروج من هذه المعضلة. فكرت في كلام المرأة السمراء عن الضعف والجُبن، أنا لا أريد أيضا أن أكون جبانة. شعرت بحنق شديد على القتيل الذي ورطني في حالة قد أعلق فيها طيلة حياتي. هممت أن أدس الورقة في يد الأرملة، لكنه بالفعل لا يستحق هذا التكريم.

سمعت موظفا يقول لآخر إن سيارة الإسعاف جاهزة للانطلاق إلى المطار. تسللت خفية من خلف المبنى لمواقف السيارات، دخلت سيارة الإسعاف، ورأيته مكفنا وعليه غطاء بلاستيكي أبيض. فتحت السحاب وكشفت عن وجهه، وضعوا قطنا في فمه وفتحتي أنفه. تساءلت أين يجب أن ينتهي مصير الورقة، تذكرت كلام المرأة السمراء، ويد أمه النحيلة، وبكاء أرملته. رأيته على طاولة القمار يقدم بيتها وأموالها، ويكتب بعد خروجه اعتذاره منها، ثم يمزق الورقة بعد كل نجاة. أخرجت القطن، ودسست الورقة في فمه دون أن ترتعش يدي، ثم أعدت القطن إلى مكانه. ذهبت إلى أرملته وقبلت خدها، وقبلت يد أمه المسكينة. كانت المرأة السمراء تنتظرني في الخارج، سألتني ماذا فعلت. أخبرتها أن الورقة قد مضت إلى حيث تنتمي.


تعليقات