الفنجان المائة



الفنجان المائة

أقسمت أمي إن تحققت النبوءة المائة لفنجان الجارات فستغرس شجرة بُن في سطح البناية، وستسقيها كل يوم بماء نقي، من ماء الخزان الذي ترهق فاتورته والدي كل شهر.

شتلة صغيرة، زينتها نساء الحارة بالشرائط الملونة، وأحطنها بمجلس دائري، ومن خلفها نافورة حجرية متثلمة لا تعمل. جلسن يحتسين القهوة فرحات يستذكرن النبوءات. شُفيت أم محمد، والبنت الصغرى لنجلاء المطلقة، وعادت فوزية لزوجها، وحصل أبو خالد على عمل جديد، في السنة ذاتها التي قُبل فيها خالد في الجامعة. وجاء مولود أم إسماعيل ذكرا، وبنت عمتها الحسودة أنثى.

يعود والدي كل يوم في المساء من عمله، يحمل أوراقه وفاكهة وخبزا وربع كيلو قهوة طحنها العم إسماعيل للتو في محمصته. تصنع منها أمي عشرة فنجاين قهوة، وهو ما يعادل عشرة آلاف فنجان في السنة، تنبئت بها أمي جميعا.

وضعنا في السطح خمسين كرسيا بلاستيكيا، زغردت كل نساء الحي فرحا بالشتلة الجديدة. ودعين لها بالبركة.

شتلة مباركة، نمت وأخرجت كرزاتها قبل حلول السنة التالية، تشبه العنب الأحمر القاني، بداخله مزيج عسلي. النساء قطفنه وغسلنه وجفّفنه وحمّصنه، وآمنّ جميعا أن الفنجان من شتلة أمي لن تخطئ نبوءته أبدا.

صارت أمي حارسة الشتلة المقدسة. وقبل أن تموت تنبأت بالفنجان العاشر بعد الألف الثالثة أنني سأخلفها. ماتت أمي، حين كانت شجرتها المباركة تنتج ما يكفي في كل يوم لعشرة فناجين قهوة.

قالت النساء لي ونحن في العزاء بأنني سادن الشجرة، اعترضت وقلت إنني لا أؤمن بها، قلن إن الكفر عيب وشين وعار. وإن البرّ هو حفظ عهد الأمهات. قدمت لي جارتنا أم أحمد الحامل في شهرها التاسع فنجانها، فرأيت طفلة بشعر منسدل على كتفيها، قلن إنهن لا يرونها، أشرت إليها، فولدت من ليلتها بنتا بشعر منسدل أشقر.

كنت أرى رسوما، ووشوما، وعلامات، لا يراها غيري. لقد آمنّ بي، ومن يقدر على رفض الإيمان به!

أستيقظ صباحا، وأسقي شجرتي المباركة، وأنقيها من الشوائب، وأزيل عنها الزينة القديمة، وأبقي الجديدة. تحضر الجارات المواقد الصغيرة، وتمنعن دخول الغريبات. في كل يوم عشرة نساء لا أكثر، هذا ما تسمح به شجرتنا المباركة.

في ضحى يوم خريفي رأيت في فنجان قهوة أم محمود عواصف ورعود. سمعنا خبط الأرجل على درج البناية، اقتحم رجال الدين السطح، وأمروا بقطع الشجرة. ولولت النساء وقالت إن الكفر عيب وشين وعار. فقال رجال الدين مثلهن. وردد الجميع بنية ومعنى مختلف، الكفر عيب وشين وعار.

وقفت أمام الشجر أحميها. خفتت أشعة الشمس، فنظرنا في السماء فإذا بقرص أسود يتوسط عينها، ويبقي على حوافها مشتعلة، كأنها فنجان أمي، بحثالة قهوتها الجامدة. قالت أم محمود ورددت النساء معها، إنها آية. فقال رجال الدين، كُسفت الشمس كي تخافوا، إنها لآية. انتشت النسوة وحملن العصي والحجارة دفاعا عن شجرة أمي المقدسة في الأرض وفنجانها في السماء. هرب رجال الدين، وأقسمت أم محمود وخمس من النسوة أن فروع الشجرة تمددت حولي حتى حملتني عن السطح. ونذرت أم أحمد أن تزوجني ابنتها الشقراء البكر.

أصبحتُ عجوزا، وفي ضحى يوم الذكرى السنوية لوفاة أمي المرأة الصالحة، تنبأتُ أن زوجتي الشقراء ستخلفني. صرختْ وهمستْ لي بأنها خرقاء. تذكرت أمي حين كانت تندب حظها وتقول في بيتنا حيث لا أحد يسمعها "كم أنت أخرق يا بني".

لا بأس يا حبيبتي، سترين رسوما ووشوما وعلامات، وسيصبح الأمر حقيقيا، طالما أن الشجرة المباركة تزهر، وأن الإيمان لا يخبو.

تعليقات