العائن



العائن

قصة قصيرة

منذ أن بلغت خمسة عشر عاما، ومنذ أن قالت جارتنا الصهباء بأنني عائن، صرت حديث مجالس نساء الحي في ضحوات الصيف ومساءات الشتاء.

قالت إحداهن إن ابنها أصابه الرمد بعد أن وصفتُ نظره بالخارق، وقالت أخرى بأن ابنتها تعرقلت أمام البقالة وأصابها التواء في القدم، وأقسمت أنها رأتني واقفا بجانب ثلاجة المشروبات أنظر إليها. أما خالتي الصغرى فقالت إن آلة الخياطة التي ورثتها عن جدتي لحظوتها عندها، قد تعطلت دون أمل في الإصلاح، بعد أن تعجبتُ من تاريخ صنعها الذي تجاوز مائة سنة.

طارت الحكايات في الحي، وصار الأطفال يفرّون مني، وأمهاتهن يخبئنهم تحت العباءات إذا ما رأوني. حاولت أمي أن تصدّ السيل العارم دون جدوى، حتى إخوتي قالوا إن عيني لا تخطئ حبيبا ولا عدوا. أصبحت أمي الأرملة تواسيني بأن كلام الناس لا يضرّ ولا ينفع، وأنه مجرد كلام! تضع رأسي على فخذها وتمسد شعري كلما جلست بجانبها، وتقول إنني ولد خيّر وطيب، وإنني دونا عن إخوتي كنت رفيقا بها وأتفقد حالها، يرضيني ما يرضيها ويكدرني ما يكدرها.

في كل صباح أغتسل وأعزل الماء، ثم أتفل فيه مرات عدة. تأتي النساء بعد الظهر بقوارير فارغة ليأخذن نصيبهن. رأيت الدموع في عيني أمي، خصوصا حين تأتي خالتي الصغرى وتخرج ببضعة قوارير، أو حين يختلس أحد إخوتي قارورة له ويمضي بها إلى الحمام.

قالت جارتنا الصهباء أن ضرري تجاوز المعقول، لقد ماتت ابنة جارتنا في الشارع المجاور بسرطان الدم، وتقسم أمها أنها رأتني أنظر إليها وهي تنزل من باص المدرسة. وأن المرض هاجمها بعد شهر واحد من تلك النظرة المشؤومة. قالت الصهباء إن علاجي أن أُغسل وأُكفّن ويُصلى عليّ صلاة الميت، يكبر الإمام خمس تكبيرات، ويقف الرجال خلفه، ومن خلفهن النساء والأطفال. سمعتُ شهقة أمي وأنا في غرفتي، نزلت فوجدتها مغمى عليها. أيقظها إخوتي الذين عضدوا الصهباء برأيهم.

تأخذ رأسي إلى حجرها، وتمسد شعري، وتحكي لي كم أنا عطوف عليها، وطيبٌ مع الناس. تتسلل أصابع يدها الثخينة في فروة رأسي، أشعر أن مستقبلي بأمان، حتى ذلك اليوم الذي سقطت فيه دمعتها. قالت إن الحياة قد تكون قاسية في بعض الأيام، لكن هذا أبدا لا يعني أنها ستستمر كذلك. ثم انحدرت دمعة أخرى.

في زاوية بيت جارتنا الصهباء مكانٌ مُعدّ لذبح وسلخ الأضاحي، أمرني إخوتي أن أتظاهر بالموت، جردوني من ملابسي، ومددوني على البلاط الأملس. أغمضت عيني فنسيت كل شيء عدا أصابع أمي، تذكرتها تقول إن الحياة قد تكون قاسية أحيانا، وفكرت في معنى (أحيانا) فلم أجد معنى له! شعرت بالماء يندلق على بطني، ثم صدري، ثم بين فخذي. خالتي الصغرى واقفة بدلو يملؤه لها أخوتي، يتسلل الماء إلى عيني وأذني، ثم بين أصابع قدمي. شعرت أن الحياة تتخلص مني وتخرجني من ضميرها.

حملوني إلى صالة البيت، ارتدت الصهباء حجابها وكذلك خالتي، وقف الرجال في الأمام وهنّ في الخلف ومن بعدهنّ الأطفال. كبروا التكبيرة الأولى، رأيت ظلمة في عيني، تلاشت الأصوات، مضى زمن طويل حتى سمعت التكبيرة الثانية. شعرت بكل جسدي وبكل نسمة فيه وشعرة. كبروا الثالثة، فتلاشيت، فقدت قدمي، وساقي، وفخذي... كل شي يتلاشى. رأيتني أرتفع وأطير فوقهم، أراهم واقفين مصطفين بخشوع. كبروا الرابعة، جاء أحد إخوتي إلى الجسد، تحمدوا له بالسلامة. قام الجسد من مكانه يبتسم منهكا.

قالت أمي حين نظرت في عين الجسد إن ابني لم يعد، هذا شبح شرير. كان الجسد ينظر إليها ويبتسم. بكت المسكينة كثيرا، وترحمت عليّ. فرحت نساء الحي، وباركن لأمي بزوال الشر. قالت الصهباء لخالتي إن الخوف أفقد أمي عقلها. قالت خالتي بأنني أعاني من الصدمة، وكانت تعني ذاك الجسد بالتأكيد.

حلقتُ فوق الجسد كثيرا، ناديته فلم يسمع، حاولت أن أمسّه فلم أستطع. كان مشدوها، يبتسم كأبله أو كشرير حقيقي. لم تطق أمي النظر إليه ولا حتى البقاء في مكان هو فيه. تمددتْ المسكينةُ على سريرها من الإعياء، فهمست في أذنها بأن الحياة قد تكون قاسية أحيانا، ابتسمت، وقالت بصوت خفيض بأنها تشعر بي أطوف حولها.

قالت خالتي الصغرى للصهباء إن أمي تخاطب أصواتا لا وجود لها، وقف الجميع حول باب حجرتها يتنصتون وهي تقول "يا حبيبي، اشتقت إليك".

في الفجر كنت أتجول في المدينة، وجدت عند الشاطئ أرواح أطفال خضراء تطير فرحة مع النوارس. أشاروا إليّ وقالوا "روح تائهة مجددا". دَلّوني على روح عتيقة لامرأة فوق نخلة في طرف المدينة، وجدتها هناك فوق النخلة تطعم طيورا عمياء من البلح. قالت إن خروج الأرواح من الجسد قد يتزامن، فتَتيه إحداهن إن حلّت محلها أخرى. وطلبت مني أعود في اليوم التالي حتى تعثر على حقيقة ما حدث.

كانت أمي المسكينة تبكي، فهمست في أذنها بأنني هنا، ابتسمت ومسحت دموعها. حدثتني الليل بأكمله عن حبي لها وعن الخير الذي في قلبي. سألتني عن الجسد، فقلت إنني لا أدري، لكنني سأعود.

في الصباح أخبرتني الروح العتيقة أن جنرالا في الجبهة أصيب برصاصة فتوقف قلبه للحظات، خرجت روحه وتاهت، فالتحمت بجسدي في اللحظة ذاتها. لقد كان الجنرال مهيبا وقويا ويحمل خمسة عشر نيشانا. قضى عمره في الحروب، وقتل أكثر من ألفي مقاتل. وعلى هامش الحرب كانت عشرون قرية قد أُبيدت، وألف طفل قد ماتوا، وعشر مستشفيات وست مدارس قد دمرت. قالت صحفنا إن العدو هو من دمرها حتى يعكر سمعة حربنا المقدسة.

كان الجنرال ممدا في المستشفى وقد وصفوه بالميت سريريا، رأيته جثة هامدة تنتظر روحها. وجدت منفذا من جهة الرأس، تذكرت كلام أمي، بأن روحا شريرة تملكت جسدي. فعدلت عن الدخول.

عدتُ إلى أمي في المساء، سمعت صراخا في الحي، رأيت الصهباء وخالتي الصغرى منحورتين، لقد فرّ الجسد والسكين في يده.

أمي المسكينة ممدة على سريرها، تناديني ولا يعنيها ما يجري في الخارج، تمددت بجانبها، مسَّدتْ روحي، وقالت "الحياة ليست قاسية دائما"، لست أفهم معنى كلامها، لكنني دائما أصدق أمي.


تعليقات